التنمر المدرسي: ظاهرة تجتاح العالم

shutterstock 1503499058 scaled - التنمر المدرسي: ظاهرة تجتاح العالم 1

التنمر المدرسي: ظاهرة تجتاح العالم

مقدمة في التنمّر وتعريفه

التنمّر في المدارس قضية تربوية واجتماعية متنامية تثير قلق المربين وصانعي القرار في البلدان العربية، نظراً لتأثيرها المباشر على التحصيل الأكاديمي وصحة التلاميذ النفسية والاجتماعية. يمكن تعريف التنمّر بأنه سلوك عدواني متكرر يتسم بعدم التكافؤ في القوة بين المتنمّر والضحية، ويهدف إلى إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي. ويتخذ هذا السلوك أشكالاً متعددة، بدءاً من الشتائم والسخرية، مروراً بالاعتداءات الجسدية، وصولاً إلى التنمّر الرقمي عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

School bullying - Humanium

انتشار التنمّر في العالم والعالم العربي

تظهر الإحصاءات الدولية أن حوالي 32% من الطلاب في العالم يتعرضون لشكل من أشكال التنمّر شهرياً. أما في العالم العربي، فإن الأرقام متفاوتة بشكل كبير، إذ تتراوح نسب انتشار التنمر المدرسي في بعض الدراسات بين 12.6% وحتى أكثر من 80% تبعاً للبلد وطبيعة العينة وأدوات البحث. ففي دول الخليج مثلاً، أظهرت دراسات أن التنمّر اللفظي هو الأكثر شيوعاً بين الطلاب، حيث تراوحت نسبته بين 30% و50%، يليه التنمّر البدني بنسبة أقل، في حين يتزايد التنمّر السيبراني بوتيرة متسارعة خصوصاً بين الفئات العمرية المراهقة. وفي دراسات أخرى شملت مدارس في شمال إفريقيا وبلاد الشام، تم التبليغ عن نسب مرتفعة للتنمّر الاجتماعي (الإقصاء والتهميش ونشر الشائعات)، وهو ما يعكس تأثير الثقافة والعلاقات الاجتماعية في تحديد نوعية التنمّر الأكثر شيوعاً.

الأسباب الكامنة وراء انتشار التنمر المدرسي

تعود أسباب انتشار التنمّر في المدارس العربية إلى عوامل متعددة ومتشابكة. أولها يرتبط بالبيئة المدرسية نفسها، حيث يؤدي غياب أنظمة ضبط واضحة أو ضعف في تطبيق القوانين الداخلية إلى تراخي الممارسات الردعية، فيشعر المتنمّر بغياب المساءلة. يضاف إلى ذلك أن بعض المدارس تفتقر إلى برامج توعية أو تدريب موجهة للمعلمين حول كيفية التعامل مع حوادث التنمّر، ما يجعل من الصعب رصدها أو التدخل المبكر لحلها. أما على المستوى الأسري، فإن غياب الرقابة الأبوية على استخدام الأجهزة الرقمية، أو وجود نماذج سلوكية عدوانية داخل الأسرة، يسهمان في تعزيز السلوكيات العنيفة لدى بعض الأطفال. كما أن ثقافة الصمت والخوف من الإبلاغ، سواء من قِبل الطلاب أنفسهم أو من أولياء أمورهم، تزيد من صعوبة تقدير الحجم الحقيقي للمشكلة، وتمنع الوصول إلى حلول سريعة وفعالة.

الآثار النفسية والاجتماعية والأكاديمية للتنمّر على الضحايا

أما فيما يخص آثار التنمّر على الضحايا، فهي متعددة الأبعاد وتشمل الجانب النفسي والاجتماعي والأكاديمي. فالطلاب الذين يتعرضون للتنمّر بشكل متكرر يميلون إلى فقدان الثقة بالنفس، والشعور بالقلق والعزلة، وقد يتطور الأمر في بعض الحالات إلى أعراض اكتئابية خطيرة أو ميول لإيذاء الذات. كما يلاحظ أن ضحايا التنمّر غالباً ما يسجلون معدلات غياب أعلى من زملائهم، ويميلون إلى الانسحاب من الأنشطة المدرسية، ما ينعكس سلباً على تحصيلهم الأكاديمي وتفاعلهم داخل الصف. وتؤكد بعض الدراسات أن استمرار التعرض للتنمّر في سن مبكرة قد يؤدي إلى مشكلات في تكوين العلاقات الاجتماعية مستقبلاً، ويزيد من احتمالات الانخراط في سلوكيات خطرة.

تحدي التنمّر السيبراني

ولعل أخطر ما يميز التنمّر في العالم العربي خلال العقد الأخير هو الانتقال من التنمّر التقليدي إلى التنمّر السيبراني. فمع انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي بين المراهقين، أصبح بإمكان المتنمّرين إيذاء ضحاياهم خارج أسوار المدرسة على مدار الساعة، ما يضاعف من حجم الضغط النفسي على الضحية ويجعل عملية المتابعة من قِبل المعلمين أو الأهل أكثر صعوبة. وتشير بعض الدراسات إلى أن ما بين 15% و30% من الطلاب العرب تعرضوا لشكل من أشكال التنمّر الإلكتروني، سواء عبر الرسائل المسيئة أو نشر صور محرجة أو الإقصاء من المجموعات الرقمية. هذه النسبة مرشحة للزيادة في ظل ضعف التربية الرقمية وغياب برامج وقائية فعالة في كثير من المدارس.

الاستراتيجيات المتكاملة لمواجهة الظاهرة

أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة الملحة إلى وضع استراتيجيات متكاملة لمواجهة التنمّر في المدارس العربية. تبدأ هذه الاستراتيجيات من المدرسة عبر وضع سياسات واضحة ومعلنة ضد التنمّر، تتضمن إجراءات عملية للإبلاغ عن الحالات والتعامل معها بسرية وسرعة. كما ينبغي تدريب المعلمين والإداريين على اكتشاف العلامات المبكرة للتنمّر والتدخل بطرق تربوية لا تقتصر على العقاب بل تشمل التوجيه والإصلاح. وفي موازاة ذلك، يجب أن تنفذ المدارس حملات توعية دورية للطلاب والأهالي لتعزيز ثقافة الاحترام المتبادل، وتوضيح أن التنمّر ليس سلوكاً عادياً بل جريمة تربوية ونفسية لها تبعات خطيرة. كذلك من الضروري إدماج التربية الرقمية ضمن المناهج الدراسية لتعريف الطلاب بمخاطر التنمّر الإلكتروني وطرق الحماية والإبلاغ.

كما أن الدعم النفسي للضحايا يعد عاملاً أساسياً في تخفيف آثار التنمّر. لذا، من المهم أن توفر المدارس إرشاداً نفسياً متخصصاً أو مراكز دعم يمكن للطلاب اللجوء إليها بسرية. ولا يقل أهمية دور الأسرة التي يقع على عاتقها تعزيز الحوار المفتوح مع الأبناء، ومراقبة استخدامهم للتقنيات الرقمية دون فرض قيود صارمة قد تدفعهم إلى العزلة، بل عبر الإرشاد والمرافقة الواعية. وعلى مستوى السياسات الوطنية، يجب أن تلتزم وزارات التربية بجمع بيانات دقيقة ومنتظمة عن حجم الظاهرة، بما يتيح تتبع الاتجاهات وتقييم فعالية البرامج الوقائية والتدخلية.

الخاتمة: دعوة للوعي الجماعي

إن مواجهة التنمّر في المدارس العربية ليست مهمة سهلة، لكنها ضرورة تربوية وأخلاقية لضمان حق كل طفل في التعليم داخل بيئة آمنة وعادلة. والاعتراف بحجم الظاهرة يمثل الخطوة الأولى نحو مواجهتها، تليه جهود تكاملية بين المدرسة والأسرة والمجتمع. فإذا كان التنمّر ظاهرة عالمية، فإن خصوصية المجتمعات العربية تتطلب حلولاً تتناسب مع ثقافتها وقيمها، وتستند إلى بناء وعي جماعي بأن المدرسة ليست مكاناً للعنف أو الإقصاء، بل فضاء للتعلم والنمو والاحترام المتبادل. إن الاستثمار في مكافحة التنمّر هو استثمار في مستقبل أبنائنا، وفي جودة التعليم، وفي بناء مجتمع أكثر إنصافاً وتماسكاً.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *