علم النفس الحديث من منظور إسلامي
علم النفس الحديث من منظور إسلامي
بالرغم من أن علم النفس ماضيا سحيقا قدم محاولات الإنسان لدراسة سلوكه إلا أن تاريخه كعلم حديث لا يزيد عن المائة عام بل أن التطور الحقيقي في مناهجه ومادته تم خلال نصف القرن الماضي, وكما يقول (Giliam) “أن علم النفس ذاته ظاهرة من ظواهر القرن العشرين”.
أن كثيراً من المفكرين الحديثين في الغرب يعتبرون علم النفس الدين الجديد لأوربا وأمريكا,وينظرون إلى علماء النفس والأطباء النفسيين على أنهم القائمون بدور القساوسة والكهنة.
وما يزيد من سيطرة علم النفس أن العالم الغربي فقد كثيراً من جذوره المسيحية التقليدية فمجتمعه بحاجة ماسة إلى ما يملأ هذا الفراغ ويعطي الفرد تفسيراً “مقبولاً” للحياة يساعده في حل مشاكله المتزايدة, التي تنشأ بعضها بسبب اجتثاث هذا العامل الروحي من تكوينه النفسي.
لماذا أسلمة علم النفس؟
عندما بدأ علماء الدراسات الإنسانية الملتزمون بالإسلام إعادة النظر في الإطار الغربي العلماني لنظريات تخصصاتهم وممارساتهم.
ظهرت ثلاث تيارات مختلفة لمفهوم أسلمة علم النفس: أولها التيار المتطرف الذي يؤكد أنه ليس هناك شيء أسمه “علم نفس إسلامي” وليس هناك ما يدعو للتأصيل الإسلامي لعلم النفس أو غيره من العلوم الإنسانية, فعلم النفس هو علم تجريبي بمعنى (Science) وبهذا المفهوم تسقط الأسلمة.
ويقابل هذا التطرف تطرف آخر يرى أن علم النفس الحديث بكل فروعه هو وليد شرعي للحضارة الغربية اليهودية والمسيحية, وأن العلم الإسلامي لو تمسك بدين وتراثه لن يكون بحاجة لهذا المسخ الأكاديمي العلماني, ويرى أصحاب هذا الرأي أن العلم الإسلامي بحاجة إلى “علم نفس إسلامي” مستمد فقط نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة وأفكار السلف الصالح وربما كتابات بعض علماء التراث من فلاسفة الإسلام وكبار متصوفيه.
أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه الوسط الصحيح الذي يعترف لعلم النفس “العلمي” والتجريبي بأهميته وفوائده العظيمة, ولكن لا ينسى تأثير الخلفية الفلسفية الغربية حتى على هذا الجانب العلمي, ولا ينسى أثر ذلك في النظريات الحضارية التي تنبثق من هذا الصرح التجريبي, كما يؤكد هذا التيار أن علم النفس الحديث كله تجارب مخبريه وميدانية, فكثير من نظرياته المعتمدة وتصوراته للإنسان الفاضل المتوافق مع بيئته هي من تأثير الحضارة الغربية التي ازدهرت فيها هذه الدراسات, وهذا أمر يقره الآن كثير من مفكري وعلماء علم النفس الغربي أنفسهم ولا شك أن بعض هذه المفاهيم الغربية منافية للإسلام.
ولنتحدث عن هذين التيارين المتطرفين بشيء من التفصيل ونناقش أفكارهما.
أولاً: الرافضون لعلم النفس الغربي.
فالغالبية العظمى من أصحاب هذا التيار ليسوا من المتخصصين في علم النفس, ويجب أن يحمد لهؤلاء حماستهم للدين.
ويرد على هؤلاء أن علم النفس الحديث قد أهمل الجانب الروحي في الإنسان, وهذه الحقيقة هي من أهم أسباب قصوره في كثير من الميادين, ولكن الإنسان ليس كله روحاً, فمما لا شك فيه أن الجوانب البيولوجية والنفسية والاجتماعية تمثل دوراً هاماً في تشكيل سلوكه السوي والشاذ. وعلم النفس الحديث قد قطع شوطاً لا يستهان به في هذه الميادين, وبالرغم من كل ما يقال عن تأثر علم النفس الحديث بالحضارة الغربية إلا أنه استطاع خصوصاً في الجوانب التي تعتمد على التجريب أن يأتي بأساليب وممارسات لا يمكن أن تستغني عنها أمة معاصرة تريد أن تلحق بركب التطور المادي للأمم الحديثة.
وهؤلاء من علماء هذه الطائفة الرافضة لعلم النفس الغربي لها تصورات “لعلم النفس الإسلامي” وتستند أساساً على كتابات علماء التراث الإسلامي من أمثال الغزالي والمحاسبي وابن تيمية وابن سيناء وغيرهم من علماء زمانهم وفلاسفتهم ومتصوفتهم.
ثانياً: الرافضون للأسلمة مع التزامهم بالإسلام
الرافضون للأسلمة بشكل عام هم في حقيقتهم طائفتان أولهما: طائفة الرافضين للأسلمة من المؤمنين الملتزمين بالإسلام وهم الكثرة الغالبة والطائفة الثانية هم القلة النادرة الرافضة للتأصيل الإسلامي لعلم النفس بسبب رفضهم للإسلام نفسه.
والغالبية العظمى من هؤلاء الرافضين لأسلمة علم النفس هم من المسلمين الطيبين, لكنهم قبلوا مواد هذا التخصص كما عرضت لهم ولم يكلفوا أنفسهم عبء البحث في جذوره “والعلمانية” فالأمر لا يخلوا من صعوبة.
فعندما يتحمسون مؤكدين أن ليس هناك شيء أسمه “علم نفس إسلامي” وأنه ليس هناك ما يدعو لهذا “الأسلمة” أنهم إنما يدافعون عن المراكز والحصون.
كذلك فإن موضوع الأسلمة نفسه يكتنفه كثير من الصعوبات والتحديات فهو بحاجة أولاً إلى:
1- تعمق في مواد علم النفس الغربي ومناهجه وممارساته.
2- إلمام عام بالإسلام نفسه وبأصوله ومصادره الأساسية.
3- تفكير ابتكاري وقدرة على الربط بين مقاصد الدين وما هو مقبول في علم النفس الغربي بمناهجه وميادينه وممارساته دون تفريط أو إفراط.
الرافضون للاسلمة من منطلق رفضهم للإسلام
_______________________________
كما ذكرنا من قبل إن بعض الرافضين للتأصيل الإسلامي لعلم النفس يفعلون ذلك لرفضهم للإسلام نفسه كدين وكأسلوب للحياة وهؤلاء بحمد الله من الندرة بمكان فمنهم من ينطلق من إيديولوجيات محددة كالماركسية ومنهم من اتخذ إلهه هواه.
اسلمة علم النفس بين الأماني الطيبة والواقع العلمي
_______________________________
فالتأصيل كما ذكرنا من قبل أمر شائك يكشف كثير من المشاكل ويحتاج من المتخصص النفسي المسلم إلى إعادة النظر في كثير من جوانب تخصصه بل إلى استعداده للتخلي عن بعض أهم مفاهيمه السابقة إلى جانب القيام بجهد مخلص لدراسة الإسلام كمنهج للحياة مع تفكير خلاق يمكنه ربط تصوراته الجديدة لعلم النفس بما اكتسبه من علم إسلامي.
وقد لاحظت منذ عدة سنوات أن هذا التبدل الصعب يتم على مراحل ثلاث يكاد يمر بها كل نفساني مسلم يعمل لتأصيل علم النفس ومثال لتوضيح ذلك “جحر الضب” الذي ضرب به الرسول صلى الله عليه وسلم المثل لما يكون عليه التقليد الأعمى من مسلمي آخر الزمان لممارسات اليهود والنصارى ولأفكارهم حيث قال صلى الله عليه وسلم في ما رواه مسلم في صحيحه “لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم: قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟”
وهذه المراحل هي:
(أ) مرحلة الافتان: أولى هذه المراحل مرحلة الافتان بعلم النفس كتخصص شائق يجد شاب فيه متعه كبيرة وينبهر بوسائله وأجهزته التجريبية والقياسية المبتكرة وينظر إليه أقرانه والعامة من الناس بإعجاب كمتخصص في أسرار النفوس ظنا منهم بأنه قد تعرف خباياها.
من هنا نجد في هذه المرحلة التمسك الشديد بعلم النفس كتخصص علمي تجريبيي وتأكيد عدم الزج بالدين والفلسفة في ميدانه.
فالنفساني في هذه المرحلة يجد الاستقرار النفسي وطيب العيش في “جحر الضب” هذا وينزلق فيه بالتدريج حتى يصبح له قرار مكين ويهاب بعد ذلك الخروج من ظلماته إلى عالم مجهول محفوف بالمخاطر العقدية.
(ب) المرحلة التوفيقية: لكن المختص النفسي النزيه خاصة بعد دخوله في الحياة العملية والدراسات العليا تظهر جوانب ضعف كثيرة في النظريات النفسية التي كان يقبلها بلا نقاش وبحماسة الشباب في مرحلة الدراسة الجامعية الأولي ثم لا يلبث أن يرى بعض التناقض بين الإسلام ودراساته النفسية المتعمقة .
حينذاك ينتقل إلى المرحلة الثانية إلا وهي المرحلة التوفيقية التي لا يريد فيها المختص الذي بنى مجده العلمي على أساس علم النفس الغربي الحديث أن يتخلى عن أي جانب منه وفي الوقت ذاته يريد أن يتمسك بإسلامه شاملا كاملا ففي هذه المرحلة لا يجد مناصا من التفسيرات التوفيقية بين الإسلام وعلم النفس لكي يتخلص من هذا التنافر الممرض المتعب فنجد كثيرا من المختصين في هذه المرحلة يركزون على التشابه الظاهري بين نظريات علم النفس الحديث وألفاظه ومصطلحاته المترجمة باللغة العربية.
وعندما تقرأ لهؤلاء المختصين نجد القول في حماسة بأنه لا تعارض على الإطلاق بين الإسلام ومبادئ علم النفس أو بأن نظرية “الخواجة فلان” موجودة في القرآن الكريم أو أن ما وصلت إليه أبحاث علماء مدرسة سيكولوجية أوروبية معينة يؤيدها ما ورد في أحاديث نبوية شريفة يسمونها.
مرحلة الانعتاق
_________
لذلك فالخروج النهائي من جحر ضب علم النفس الغربي أمر صعب.والمرحلة من الاتجاه التوفيقي إلى مرحلة الانعتاق والتحرر الأخير فيه مشقة لا تقارن بمرحلة التطور من الافتان إلى التوفيق .
أما الانعتاق الكامل فهو أمر أخر هو تصور شامل جديد لذلك وجب علينا أن نسير ببطء في هذا المنعطف لنسجل بعض خبراتنا في مساعدة الموفق حتى ينعتق من قبضة التصورات الغربية لعلم النفس.
الطريق إلى الانعتاق
_____________
إن الانعتاق لا يتم إلا إذا تحقق الموفق من أنه رغم التشابه الظاهري بين كثير من تيارات علم النفس الغربي ومفاهيمه ونظرياته والإسلام كدين وأسلوب شامل للحياة فهما ظاهرتان لهما تصوراتهما المختلفة والمتباينة عن الحياة وطبيعة الإنسان وماله ولا يتم الانعتاق تماماً إلا بعد أن يستشعر المتخصص أنه مسلم مؤمن أولاً ثم متخصص نفسي ثانياً وأن تخصصه الفريد في علم النفس يجب أن يكون في خدمة الإسلام بمفهومه الإنساني الواسع وبكل أبعاده السابقة لا يكون الإسلام في خدمة تخصصه.
Share this content:
إرسال التعليق