غزةُ مدرسةٌ والامتحان لم ينته, فأدركوا أنفسكم أيُّها المتخاذلون

غزةُ مدرسةٌ والامتحان لم ينته فأدركوا أنفسكم أيُّها المتخاذلون

غزةُ مدرسةٌ والامتحان لم ينته

فأدركوا أنفسكم أيُّها المتخاذلون

إنَّ المتأمِّل في واقع المسلمين عموماً وفي أحداث غزَّة الفاضحة الكاشفة خصوصاً رغم ثقل التضحيات العظيمة، والآلام الجسيمة، والدَّمار الشَّامل الذي لا يرقب في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّة، ورغم الدِّماء النَّازفة، والجراح التي تدمع لرؤيتها العيون، وتنزف من هولها القلوب يزداد يقيناً بأنَّ غزَّة واقفة لا تنكسر للصَّبر الذي رُزقه الغزيُّون رجالاً ونساءً، شباباً وأطفالاً، مدرسةٌ تعلَّمنا منها بأنَّ النَّصر يُنتَزَع ولا يُوهب، وعليه فلا بدَّ أن نقف مع بعض الدُّروس والعبر المستفادة من أحداثها وهي كالتالي:

الدَّرسُ الأوَّل: التمحيصُ الدَّاخلي للأُمَّة:

قال اللهُ جلَّ في علاه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت 2)، غزَّة فضحت وكشفت من هو مع الحقِّ بالأقوال والأفعال وبكلِّ ما يُسهم من قريبٍ أو بعيدٍ في إحقاق الحقِّ وإبطال الباطل، كما أنَّها كشفت من يُساير الباطل وأهله بحجَّة “الحياد” أو “الواقعية”.

وكشفت كثيراً من المتصدِّرين باسم الدِّين الذين يلبسون لباس أهل العلم ولكنَّ قلوبهم مع أعداء الملَّة والدِّين، فجاءت أحداث غزَّة الكاشفة الفاضحة لتبيِّن لنا بجلاءٍ ووضوحٍ مَن يحمل همَّ هذا الدِّين وهموم أهله وينافح ويدافع عنهم قلباً وقالباً لا يخشى في الله لومة لائمٍ، فحفظوا بذلك هيبة الدِّين، وحفظوا عهد الله ببيان ما ولاَّهم إيَّاه:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)(آل عمران 187)، وبين مَن باع دينه بعرضٍ من الدُّنيا قليل، المصيبة فيمن باع دينه بدنياه، ولكنَّ المصيبة الأكبر فيمن باع دينه بدنيا غيره فخسر الدُّنيا والآخرة، فكم سمعنا من هؤلاء وهم يرفعون راية الولاء والبراء من أجل مسائل في الفروع يسع فيها الخلاف مع التفريط في قضايا مهمَّة من العقيدة، إذ الخلاف واقعٌ ما له من دافع، والصَّحابة رضوان الله عنهم اختلفت آراؤهم في كثيرٍ من مسائل الفروع، وتوحَّدت قلوبهم، من أجل ذلك انتصروا وافتتحوا الأقطار والأمصار في زمانٍ يُعدُّ بالمقياس المادِّي من المستحيلات، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.

ولْنَتعلَّم من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى الذي نصر اللهُ به الدِّين في محنة القول بخلق القرآن، لما دخل الإمام في ذلكم الحين على المأمون استشاط غضباً، وقام فزعاً وقال للإمام أحمد بصوتٍ عالٍ يعلوه الغضب: هذا هو سيفي قد جرَّدته من غمده فو الله لا أدخله فيه.. إلاَّ أن تعترف بخلق القرآن.

ساعتئذٍ وقف الإمام أحمدُ رحمه الله تعالى وقفةً سجَّلها التاريخ بأحرفٍ من ذهبٍ، حيث كان يسعه ما وسع غيره من الترخُّص حين الإكراه، وكان يسعه الصَّمت لينجو من بطش السُّلطان، لكنَّه رحمه الله تعالى آثر الباقية على الفانية، وعلم أنَّ خلقاً كثيرين ينتظرون قولته، فإن لاَنَ واستكان وخضع للتهديد ضلَّ وأضلَّ كثيراً من النَّاس، فصدح بالحقِّ وثبت عليه، وبيَّن بأنَّ القرآن الكريم كلامُ الله غير مخلوقٍ، فضُرب لأجل ذلك وسُجن وأُهين، وثبَّت الله به الأمَّة من بعده، وأعزَّه الله ورفع قدره وأعلى شأنه وأجرى على ألسنة الخلق الثَّناء عليه إلى يومنا هذا، (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(المائدة 54)، ومن يصدق الله يصدقه.

الدَّرسُ الثاني:

أثبتت الأحداث بأنَّنا بحاجة ماسَّة لنتعلَّم دروساً في العقيدة العمليَّة والميدانية من أبناء غزَّة وأطفالها، ولا سيما باب الولاء والبراء الذي يُعدُّ من أصول العقيدة فقد اختلَّت فيه الموازين، وزلَّت فيه الأقدام، وضلَّت فيه الأفهام لنعرف من هو الصَّديق ومن هو العدوّ، ولنعرف من نُعادي ومتى نعادي، وكيف نعادي، وكيف نحب ومن نحب ومتى نحب، ففي حديث أنسٍ رضي الله عنه في الصَّحيحين عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: “ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سَوَاهُمَا، وَأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلاَّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ”( وأنصح بقراءة كتاب الولاء والبراء للشَّيخ محمَّد بن سعيد بن سالم القحطاني رحمه الله تعالى، ويكفي في بيان قيمة الكتاب أنَّ الذي قدَّم له العلاَّمة الشَّيخ عبد الرَّزَّاق عفيفي رحمه الله تعالى، ولله الحمدُ والمنَّة فقد درستُ الكتاب كاملاً على شيخنا المفضال محمَّد بن عبد الله الإمام في اليمن السَّعيد في معهد دار الحديث).

GazaFlagPAHamasDamageRTR45XWO غزةُ مدرسةٌ والامتحان لم ينته, فأدركوا أنفسكم أيُّها المتخاذلون

الدَّرسُ الثالث: سقوط الأقنعة:

أين دُعاة حقوق الإنسان والحيوان، والذين يتباكون على الخراف التي تُذبحُ في عيد الأضحى لإقامة شعيرةٍ من شعائر الإسلام، وسكتوا عن الأهوال والطَّامَّات والبليَّات التي تحدث في غزَّة العزَّة.

قتلُ امرئٍ في غابةٍ…جريمةٌ لا تُغتَفر

وقتلُ شعبٍ آمنٍ…مسأَلةٌ فيها نظر

والحقُّ للقوَّةِ لا…يعطاهُ إلاَّ مَن ظفر

ذي حالة الدُّنيا فكن…من شرِّها عَلَى حذر

فقد كشفت أحداث غزَّة أقنعة الإعلام والأفراد والهيئات والأنظمة والحُكَّام، فالكثير ممَّن يزعم الدِّفاع عن الإنسانية صامتٌ أمام المجازر، ناهيك عن الذين يدَّعون نصرة القضية لكنَّهم يطعنونها في الخفاء والظَّلام.

الدَّرس الرَّابع:

الوعي المتنامي عند الشُّعوب كلِّها مُسلمها وكافرها، غنيِّها وفقيرها، عالمها وجاهلها، فالشُّعوب الغربيَّة الآن تتوجَّه وتسأل من أين تعلَّم الغزيُّون هذا الثبات والصَّبر على البلاء والتسليم بقضاء الله جلَّ في علاه وقد عُطِّرت ألسنتُهم بالحمد والثناء على الله رغم الجراح، فوجدوا بأنَّ الحقيقة كلَّها تكمن في هذا الدِّين وفي القرآن الذي تربَّى عليه هؤلاء الفضلاء فاتجه الكفَّار لدين الله أفواجاً أفواجاً سائلين ومؤمنين، ثمَّ جاء الدَّعم الشَّعبي لغزَّة فكسر القيود، وتجاوز كلَّ الحدود، وجاءت سُنَّة التغيير فعلَّمتنا بأنَّ كثيراً ممَّن كانوا يُحسبون في أُمَّتنا على “الصَّف الأوَّل” يتساقطون تباعاً وكُشفت عوراتهم، وأُلقوا إلى مزبلة التَّاريخ الذي لا يرحم حيث يُسجِّل كلاًّ باسمه: (خائناً، متخاذلاً، مجاهداً، منافحاً، مكافحاً، جحوداً حقوداً) وآخرون رفع الله أقدارهم وأعلى شأنهم بمواقفهم السَّامقة مع القضايا العادلة…

أبو زكريا عمر عمَّار أقنيني

خرِّيج الأكاديمية العربية الدَّولية 

بعد مغرب الثلاثاء 7 شوَّال 1446هــ/ 8 أفريل 2025م.

(مشاركة خارجية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top