مذكرات طفل-4- حديقة البناية: نزاع على الملكية
حديقة البناية: نزاع على الملكية
الصحبة الأولى: أخوة
نسيم كان أول من تفتحت عيناي على رفقته, إبن الجيران الذي يكبرني بعام واحد, كنا نتقاسم الطابق أرضي في شقتين منفصلتين, أبوابنا متواجهة وشرفاتنا متلاصقة وجدراننا مشتركة وحديقة المنزل التي تحيط بمنزلينا مفتوحة كأرض ملعب للمنزلين, نقفز من على الشرفة لتطأ أقدامنا أرض الحديقة الإسمنتية بأغلبها والتي يتوزع على أطرافها أحواض زرع من الزهور والورود والياسمين وأشجار الليمون والأفندي وعريشة أعناب.
الأطفال وثمار الأشجار
لم نكن نصبر على نضوج ثمرها فكنا نقطفها حصرماً ونأكلها مع الملح, مما يثير غضب صاحب العمارة ومالك الحديقة الحاج أبو محمود. كان أبو محمود, العجوز السبعيني, يهتم بزرع الحديقة بشكل شبه يومي قبل الغروب بعد عودته من عمله, ينظف الأحواض وينتزع العشب الزائد ويشذب الأغصان, يهتم بأحواض الورد وشجرتي الياسمين.
إقرأ أيضاً مذكرات طفل -3- الفضول
الطفل يمتلك الطبيعة
نحن كنا صبية تستبيح كل شيئ, نعتبر الطبيعة ملكنا, كان يصيح علينا صاحب البناية من على شرفة منزله في الطابق الرابع:” يا أولاد أخلوا الحديقة وعودوا إلى منازلكم…”, فكنا نركض مهرولين نتسلق الشرفات وندخل إلى البيت خائفين مختبئين وراء الكنبات وتحت الطاولات حتى يهدئ روع المالك وينطفئ غضبه ويطمئن على زرعه.
لكن زرعه لم يكن ليسلم من مغامراتنا, لم يكن هو ليعِ أنه من الصعب ضبط الأطفال خلال ممارستهم حياتهم الطبيعية في الحديقة التي هي امتداد طبيعي لمنزلهم ويشعرون انها امتداد طبيعي لحياتهم ومخيلتهم واماكن لعبهم ولهوهم الآمن.
لم نكن نحن الصبية نعي بأن هذه الحديقة ملكية خاصة لصاحب العمارة التي استأجر فيها أهلنا منزليهما في الطبقة الأرضية من قبل أن نبصر النور, وأن هذه الحديقة ليست ملعباً لنا بل أرض صاحب العمارة التي يمارس فيها هوايته ويمضي فيها أوقات فراغه في زرعها والإهتمام بمزروعاتها وينتظر بفارغ الصبر نضوج ثمارها ليقطفها ويأكل منها ويقدمها لضيوفه ويتباهى بما زرعت وحصدت يداه.
حديقة العجوز وعالم الصبية
نحن الصبية كانت تلك الحديقة عالمنا وملعبنا وملاذنا الآمن وفي لا وعينا كانت ملكية لطفولتنا فهي امتداد الطبيعة من شرفاتنا وتواصلنا مع العالم الخارجي في مساحة آمنة, تُخرجنا من الحضن المنزلي الإسمنتي وعالم الأثاث والستائر والزجاجيات والإنتباه والحذر والنظام والترتيب وصرخات الأم:” انتبهوا على المزهرية لا تخدشوا الكنبة لا توسخوا الستائر…”.
الهروب إلى الطبيعة
هروباً إلى الطبيعة حيث الحرية والهواء الطلق ونور الشمس وزرقة السماء واستكشاف أصدقاء جدد من كائنات الطبيعة الجميلة من المزروعات والزواحف والنمل والضفادع والنحل وورود الياسمين والفل وياسمين الملائكة والتماس المباشر مع الزرع والتراب والرمال والمياه الراكدة والقطط المارقة والطيور المزقزقة والسقف الذي لا حدود له إلا السماء.
مكافأة نهاية العمر
هو أيضاً, صاحب العمارة, كانت الحديقة ملعبه وملاذه الآمن, وفي وجدانه ولا وعيه كانت تلك الحديقة وكأنها مكافأة نهاية العمر ودنو الأجل ووداع الدنيا بهدوء وسكينة وتأمل, فكأنه يتقرب من الأرض التي ستحتضنه يوماً ما لا محالة عاجلاً غير آجل, فهو في سنٍ يقترب من الخاتمة وتبتعد عنه الحياة بصخبها وشغفها وطموحاتها وسعيها, لا إرادياً أو باستسلام لا فرق, المهم أن تلك الحديقة أصبحت في وجدانه ملاذاً آمناً وحضناً دافئاً ووقتاً زاخراً بالحركة والشغف والتجدد والإنتظار بهدوء وسكينة.
نزاع بين جيلين
تشابهت التطلعات والأهداف والتقت على أرض أصبحت محل نزاع بين جيلين متباعدين تباعد يصل إلى سبعين عاماً, فارق الأعمار بين الصبية اللاهون في ملك كهل عجوز يلهو هو أيضاً ويلعب دون عبث لينتج ثمارا ووروداً على أرضٍ ستضمنا جميعاً تحتها يوماً ما ونحن نتصارع فوقها كلٌ بحسب الهامش الذي يمتلكه في وعيه ووجدانه مع فارق الأعمار والأفكار والعقول والفهم والوعي.
المصدر
مذكرات الكاتب
Share this content:
إرسال التعليق