الاقتصاد الأخضر العمود الفقري للتنمية المستدامة
اعداد: أ.د نادين الكحيل

مقدمة
يشهد العالم منذ مطلع القرن الحادي والعشرين تحولات اقتصادية وبيئية متسارعة، حيث باتت التحديات المناخية والبيئية تضغط على الدول والحكومات لإيجاد حلول بديلة عن النموذج التقليدي للاقتصاد القائم على الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية والتلوث، أبرزها: التغير المناخي، التلوث، فقدان التنوع البيولوجي، واستنزاف الموارد الطبيعية.
وقد أفرزت هذه التحديات الحاجة إلى إعادة التفكير في أنماط الإنتاج والاستهلاك، والبحث عن نماذج اقتصادية جديدة تتواءم مع متطلبات الاستدامة. ومع سعي الحكومات إلى إيجاد سبل فعالة لإخراج بلدانها من الأزمات الاقتصادية والبيئية، فقد اقتُرح “الاقتصاد الأخضر ” بأشكاله المختلفة كوسيلة لتحفيز تجديد تطوير السياسات الوطنية والتعاون الدولي ودعم التنمية المستدامة.
وقد حظي هذا المفهوم باهتمام دولي كبير على مدى السنوات القليلة الماضية كأداة لمعالجة الأزمة المالية في عام 2008، فضلاً عن كونه أحد موضوعي مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2012، حيث اتفقت الحكومات في (مؤتمر ريو+20 )على اعتبار الاقتصاد الأخضر أداة هامة للتنمية المستدامة؛ وهو أداة شاملة للجميع ويمكن أن تدفع النمو الاقتصادي والعمالة والقضاء على الفقر، مع الحفاظ على الأداء الصحي للنظم الإيكولوجية للأرض.
هنا ظهر مفهوم الاقتصاد الأخضر كإطار اقتصادي يسعى لتحقيق النمو والتوازن بين النمو الاقتصادي، العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة. لقد شكلت القمة العالمية للاقتصاد الأخضر لعام 2025 دعماً هاماً للجهود العالمية لتسريع التحول نحو اقتصاد أخضر مستدام ضمن سبعة محاور أساسية: (التكنولوجيا والابتكار،مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة،السياسات والتشريعات،التمويل، العدالة المناخية،التكيف والمرونة المناخية،الشباب والعمل المناخي).
أولاً-مفهوم الاقتصاد الأخضر
يعد مفهوم الاقتصاد الأخضر( Green Economy) مفهوماً جديد نسبياً ويحتمل عدة تعريفات، فوفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP يُعرِّفه بأنه: “الاقتصاد الذي يؤدي إلى تحسين رفاه الإنسان وتحقيق المساواة الاجتماعية، مع الحد بدرجة كبيرة من المخاطر البيئية والأضرار الإيكولوجية، ويتصف بتخفيضه لانبعاثات الكربون، وفاعليته من حيث استخدام الموارد، وتحقيقه للشمول الاجتماعي”.
وبتعبير آخر، فإن الاقتصاد الأخضر هو اقتصاد منخفض الكربون، وكفؤ في استخدام الموارد، وشامل اجتماعياً، ويعني ذلك:
- تقليل الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.
- تحسين كفاءة استخدام الطاقة والمياه والموارد الطبيعية.
- تعزيز العدالة الاجتماعية وخلق فرص عمل جديدة في مجالات صديقة للبيئة مثل الطاقة المتجددة وإعادة التدوير والزراعة المستدامة.
- حماية الأنظمة البيئية والتنوع البيولوجي للأجيال القادمة.
ثانياً-مرتكزات الاقتصاد الأخضر
يمثل الاقتصاد الأخضر ركيزة أساسية لتحقيق أهداف أجندة الامم المتحدة للتنمية المستدامة، من خلال:
- الهدف 7 (طاقة نظيفة وبأسعار معقولة).
- الهدف 8 (العمل اللائق والنمو الاقتصادي).
- الهدف 11 (مدن ومجتمعات مستدامة).
- الهدف 13 (العمل المناخي).
وبالتالي فإن أبرز المرتكزات تتمثل بالآتي:
- الطاقة المتجددة: كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والكتلة الحيوية، والتي تعد بدائل نظيفة عن الوقود الأحفوري.
- الإدارة المستدامة للموارد: من خلال الاقتصاد الدائري، عبر ترشيد استهلاك المياه، والحفاظ على الغابات، وإعادة تدوير المخلفات.
- النقل الأخضر و النقل المستدام: عبر التوجه نحو السيارات الكهربائية، والمواصلات العامة النظيفة، والدراجات، والقطارات السريعة، وتطوير بنى تحتية صديقة للبيئة.
- البناء الأخضر: تصميم المباني وفق معايير تقلل استهلاك الطاقة وتحد من التلوث، عبر استخدام مواد صديقة للبيئة.
- الزراعة الخضراء: التي تراعي خصوبة التربة، وتقلل استخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية.
- العدالة الاجتماعية: من خلال توفير فرص عمل لائقة، وتحسين جودة الحياة، وتقليل الفقر.
ثالثاً-التحديات التي تواجه التحول نحو الاقتصاد الأخضر
يواجه الاقتصاد الأخضر رغم مزاياه العديد من التحديات والعقبات، من أبرزها:
- ارتفاع تكاليف التحول الأولية: تحديداً في البنى التحتية للطاقة المتجددة (خصوصاً في الدول النامية).
- المصالح الاقتصادية للشركات التقليدية: مثل شركات النفط والفحم والتي تقاوم التغيير.
- غياب التشريعات والحوكمة البيئية: في كثير من الدول النامية.
- غياب الوعي المجتمعي: بضرورة وأهمية التحول الاخضر نحو الاستدامة.
- ضعف التمويل الدولي: لدعم مشاريع الاقتصاد الأخضر في العديد من الدول الفقيرة.
رابعاً- نماذج الاقتصاد الاخضر عالمياً وعربياً.
يعتمد التحول إلى الاقتصاد الأخضر على رأس المال الطبيعي والبشري لكل بلد، وبالتالي فإن متطلبات الانتقال تختلف من دولة لأخرى، لذا سنتناول على سبيل المثال لا الحصر بعض النماذج الدولية والعربية:
- الولايات المتحدة الامريكية: تبنّت استراتيجية واضحة نحو التحول إلى اقتصاد أخضر، عبر برامج حكومية مثل “الخطة الأمريكية للبنية التحتية النظيفة” و”قانون خفض التضخم 2022″، الذي وفر حوافز مالية ضخمة لدعم مشاريع الطاقة النظيفة والتقنيات البيئية بحلول 2025، أصبحت هذه السياسات محركاً رئيسياً لابتكار حلول تكنولوجيا خضراء في عدة قطاعات، أبرزها الطاقة المتجددة، النقل المستدام، وإدارة النفايات الذكية، حيث أصبحت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح من المصادر الأساسية لتوليد الكهرباء في العديد من الولايات مثل: كاليفورنيا وتكساس وأريزونا، وتُعد أمريكا من أكبر منتجي الطاقة المتجددة في العالم، بفضل المشاريع العملاقة مثل مزارع الرياح البحرية ومحطات الطاقة الشمسية، الزراعة الذكية، السيارات الكهربائية، كما تسعى الحكومة إلى تحقيق الحياد الكربوني في قطاع الكهرباء بحلول 2035.
- الصين: أكبر مستثمر عالمي في الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، تسيطر الصين على ثلاثة أرباع مشاريع الطاقة المتجددة من شمسية وطاقة رياح قيد التنفيذ حول العالم، مما يؤكد ريادتها في قطاع الطاقة النظيفة،حيث تسرع الصين انتقالها إلى اقتصاد منخفض الكربون من خلال التقنيات الخضراء والمتجددة للطاقة، فلقد أصبحت رائدة عالمياً في الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين، كما ان المحور المركزي لمبادرة التصنيع الأخضر في الصين هو الانتقال إلى التصنيع منخفض الكربون،مع التزامها بالحياد الكربوني بحلول عام 2060.
- روسيا: لقد نجح علماء روس في تطوير محفز جديد يسرّع إنتاج الهيدروجين الأخضر من المخلفات النباتية باستخدام الضوء، مثل أشعة الشمس، وفق ما أعلنت مؤسسة العلوم الروسية. ويأتي هذا الابتكار في إطار الجهود العالمية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري، والتي تؤدي إلى ظاهرة الاحتباس الحراري.
- ألمانيا: تعتبر رائدة في مجال الطاقة المتجددة والتحول الطاقوي، حيث تولد أكثر من 40% من احتياجاتها من مصادر نظيفة ومتجددة.
- كوريا الجنوبية: نموذج للبلدان الصناعية والمتقدمة تكنولوجياً في تطوير التقنيات الخضراء ونماذج الأعمال، وتستهدف تحقيق الحياد الكربوني في 2050، وهي مسؤولة عن 1.6% تقريباً من الانبعاثات العالمية.
- السويد: تسعى لتصبح أول دولة خالية من الكربون بحلول 2045.
- المملكة العربية السعودية: لقد أكد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز على أن الهدف هو الاعتماد على الطاقة النظيفة بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2030، كما اطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مبادرتي “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”، حيث تهدف مبادرة السعودية الخضراء الى تفعيل دور كافة فئات المجتمع، وتوحيد جهود الاستدامة، وتسريع وتيرة العمل المناخي في المملكة.
- كما تدعم مبادرة السعودية الخضراء طموح المملكة المتمثل في تحقيق هدف الحياد الصفري بحلول عام 2060م عبر تبني نموذج الاقتصاد الدائري للكربون، كما تعمل على تسريع رحلة انتقال المملكة نحو الاقتصاد الأخضر. وتسعى المبادرة إلى تحقيق ثلاثة أهداف طموحة تتمثل في تقليل الانبعاثات الكربونية، وتشجير المملكة، وحماية المناطق البرية والبحرية.
- الإمارات: تعد دولة الإمارات العربية المتحدة مركزاً عالمياً مؤثراً وفاعلاً في مسيرة التحول الأخضر، لقد دشنت مدينة “مصدر” كنموذج عالمي للمدينة المستدامة،واستثمرت في الطاقة المتجددة.
- المغرب: أطلق مشروع “نور” للطاقة الشمسية، وهو من أكبر المشاريع في إفريقيا والعالم.
- مصر: تبنّت مشروعات الطاقة الشمسية والرياح مثل مشروع “بنبان” للطاقة الشمسية بأسوان.
- الأردن: توسع في مشاريع طاقة الرياح والشمس لسد جزء من احتياجاته الطاقية.
- سلطنة عُمان: تمثّل نموذج اقتصاد الوقود الأحفوري، ذات كثافة الانبعاثات الكبيرة، واستهلاك الطاقة القائمة على الدعم. ولتقليل اعتمادها على النفط والغاز، اللذين يمثلان 70-85% من الإيرادات الحكومية، تستهدف عُمان وصول نسبة الكهرباء من الطاقة المتجددة إلى 39% بحلول 2040.
خاتمة
ان الاقتصاد الأخضر لم يعد خياراً بل حاجة وضرورة استراتيجية في ظل ما يواجهه العالم من تحديات بيئية واقتصادية. بفضل الفوائد التي يوفرها على كافة الاصعدة:
- الصعيد البيئي: يساعد في الحد من التلوث، حماية الغابات والتنوع البيولوجي، التكيف مع التغير المناخي والاحتباس الحراري.
- الصعيد الاقتصادي: يسهم في تنويع مصادر الاقتصاد، تقليل الاعتماد على النفط والغاز، تحفيز الابتكار التكنولوجي.
- الصعيد الاجتماعي: يعمل على توفير وظائف جديدة، تحسين الصحة العامة، تعزيز العدالة الاجتماعية.
- الصعيد الاستراتيجي: يقوم على تحقيق الأمن الغذائي والمائي وطاقة أكثر استدامة.
وبطبيعة الحال فإن الانتقال إلى هذا النموذج يتطلب إرادة سياسية، استثمارات مالية، ووعياً مجتمعياً، يعيد تشكيل العلاقة بين الانسان والبيئة عبر أنماط الإنتاج والاستهلاك. وبهذا يصبح الاقتصاد الأخضر أداة لتحقيق تنمية أكثر عدالة واستدامة، تحفظ للإنسان والبيئة وللأجيال القادمة مستقبلاً متوازناً وآمناً في جميع أنحاء العالم.
