التحول الأسلوبي في القرآن الكريم – دراسة أسلوبية –
التحول الأسلوبي في القرآن الكريم- دراسة أسلوبية –
أ.د. عبدالله خضر
عضو الهيئة التدريسية في الاكاديمية العربية الدولية
وهو انزياح تركيبي يعني الانتقال من بين أساليب الكلام “انتقالا مفاجئا يستهدف إحداث تأثير فني”([1])، كالتحول من الإنشاء إلى الخبر ومن الخبر إلى الإنشاء، إذ تساهم تلك الأساليب في بناء النصوص وزيادة جماليتها.
وبناءً على ذلك فللسِّياق أثر مهمٌّ في إنتاج جماليات/ انزياحات أخرى لأنواع الخِطاب بالجملة الاسمية أو الفعلية، وقد يَفرِض سياقُ الموقف الانتقالَ من أحد الخطابينِ إلى الآخر؛ تحقيقًا لأسرارٍ بلاغيةٍ يجب الانتباهُ إليها، وتوجيه ذهن المتلقِّي للبحث عنها، مشاركًا منشئَ الخطاب في إبداعها، ولا سيَّما أنَّ البحث الأسلوبي ينصُّ على التفاعل بين المبدِع والمتلقي.
وفيما يأتي أنواع من التحول الاسلوبي في النص القرآني:
أ– العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية وعكسه:
أنَّ السياق قد يفرِض العدولَ عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية، أو عكس ذلك حسبما يقتضي المقام، وأحوال الخطاب.
فمِن شواهد العدول عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية قوله – تعالى -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ (البقرة: 14)، تحكي الآيةُ الكريمة موقفَين للمنافقِين، وقد أثَّر سياق كلِّ موقف وحالُ طرفي الاتصال في الصياغة؛ فالمنافقون في خطابهم المؤمنين الذين يعرفون أماراتِ المنافقين، يُعبِّرون بالجملة الفعلية (آمنَّا)؛ لأنهم يتحدَّثون عن إيمانهم المزعوم، وهو شيءٌ عارِض، استلزمه موقف التقية والمداجاة([2])، فليس له أصل ثابت في نفوسهم يدفعهم إلى توكيده، والتعبير عن ثبوته، كما أنَّهم يعلمون أنَّ حديثهم لن يروج عندَ المؤمنين، حتى لو أكَّدوه بأوكدِ لفظ، إلا رواجًا ظاهرًا لا باطنًا.
وهم في خطاب شياطينهم من المنافقين والكافرين يتحدَّثون عن أصل ثابتٍ مكين يجمعهم معًا، وهو كُفرُهم المستقرُّ في قلوبهم، فعبَّروا بالجملة الاسمية(إنا معكم) المؤكدة بـ “إن”، وهي تصوِّر ثبوت الشِّرْك في قلوبهم، وتمسُّكهم به، وحِرْصهم على استمراره، فحديثهم عن الكفر صادرٌ عن صِدق ورغبة، ووفور نشاط؛ لذلك كان مُتقبلاً منهم، ورائجًا عندَ إخوانهم([3]).
وقد جَسَّدتِ المفارقةُ في الصياغة، وعدولُها عن الفعلية إلى الاسمية حالَ الشتات والازدواجية التي تسيطر على المنافقين، وتصوِّر مواقفهم تُجاهَ الحياة والأحداث، فهُم في تقلُّب دائم من النقيض إلى النقيض، تبعًا للمواقف المتقلِّبة، وللمخاطبِين المختلفين.
ومثل ذلك أيضًا (أي: العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية) قوله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾(لقمان: 33).
فلقد أوثرتِ الجملة الفعلية في نفي جزاءِ الوالد عن ولده، ثم عدل عنها إلى الجملة الاسمية عندَ نفي جزاء الولد عن الوالد ﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ… ﴾، يقول الزمخشري في نكتة هذا العدول: “إنَّ الخطاب للمؤمنين، وعِلْيتُهم قُبِضَ آباؤهم على الكفر وعلى الدِّين الجاهلي، فأريد حسْم أطماعهم وأطماع الناس فيهم أن ينفعوا آباءَهم في الآخرة، وأن يشغلوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئًا، فلذلك جيء به على الطريق الآكد([4])
وقد تعقب ابن المنير السُّنِّي هذا الرأي قائلاً: “إنَّ صحته تقتضي أن يكون الخطابُ خاصًّا بالموجودين حينئذٍ، والصحيح أنَّه عام لهم، ولكل مَن يُطلق عليه اسمُ ناس”، أما وجه ذلك العدول في نظر ابن المنير فهو أنَّه “لما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنونَ الوقوع؛ لأنَّ الله حضَّه عليه في الدنيا، كان جديرًا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس([5])
ويُضيف الألوسي – إلى ما تقدَّم – رأيًا آخر في تفسير تلك المخالفة، فيقول: “إنَّ العرب كانوا يدَّخرون الأولاد لنفعِهم، ودفع الأذى عنهم، وما يهمهم، ولعلَّ أكثر الناس اليوم كذلك، فأُريد حسْمُ توهُّم نفعهم ودفعهم، وكفاية المهمِّ في حقِّ آبائهم يوم القيامة، فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم([6]).
والحقُّ أنَّ هذا الرأي الأخير هو – فيما نحسُّ – أرجح ما قيل في تفسير هذا العدول في الآية الكريمة، غير أنَّا لا نرى وجهًا لتخصيصه بالعرب دون غيرهم من الأجناس، ولا بالناس – أو أكثرهم – في عصر دون عصر، فالأبناء – دائمًا – هم مثار افتتان الإنسان واغتراره بالحياة، وهم لا الآباء – عادة – مَعْقد الرجاء، مَغْرس الأمل، وحلم المستقبل، ومِن ثَمَّ فإنَّ مراد العدول في الآية هو اقتلاعُ ما قد يتسلَّل إلى مسارب النفس البشرية – من أي جنس، وفي أي عصر – من توهُّم نفع الأبناء، ولعلَّنا نلاحظ أنَّ تعميم مرد العدول على هذا النحو هو ما يلائم سياقَ الآية الكريمة التي جاء النداءُ في صدرها {يا أيها الناس} عامًّا مستوعبًا جميعَ أفراد الجنس البشري دون تخصيص.
ولعلَّنا نلاحظ أيضًا: أنَّ العدول عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية قد واكَبَه العدولُ في الجملة الأخيرة عن لفظة “ولد” إلى لفظة “مولود”، والفرْق بينهما – كما ذكر الزمخشري وغيره -: أنَّ المولود لا يُطلق إلا على مَن وُلِد منك “بلا واسطة”، أما الولد فإنَّه عام يشمل الولد، وولد الولد([7])وعلى أساس هذا الفرْق، فإنَّ العدول عن الأولى إلى الثانية يتآزَرُ مع العدول إلى الجملة الاسمية في تأكيد العموم في معنى “عدم الانتفاع بالذريَّة”، إذ إنَّ نفي انتفاع الإنسان بولده الذي هو مِن صُلْبه يقتضي نفي انتفاعه بمَن عداه مِن باب أولى([8])
ومنه كذلك قول الله – تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ (النحل: 128)، ومنه أيضًا قوله – تعالى -: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾(الكافرون: 2 – 3)
أما العدول عن الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية، فنحو قوله – تعالى -: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ (المؤمنون: 1-16)
تصِف الآيةُ الكريمة موقفَين مختلفين (الموت والبعث)، فجاء الحديثُ عن “الموت” بـ“دال الاسمية” (ميتون)؛ ليرسخ معنى السكون والخمود، وينشر ظلالَه وهيمنته على الصياغة، ويوقِظ المتلقي خالي الذهن، الذي يعبُّ من لذَّات الحياة، وكأنه مخلَّد فيها، فأنزلتْه الصياغة المخالِفة لمقتضى الظاهر منزلةَ المنكر للموت، وخُوطب بالجملة الاسمية المؤكدة بمؤكدين: “إن”، و“اللام” (لميتون)؛ ليتنبه – بعد غفلة – إلى أن الموت هو اليقين الحقيقي في هذه الحياة.
وعندما انتقلتِ الصياغة إلى الحديث عن البَعْث، جاء الخطاب بالجملة الفعلية (تُبعثون)؛ لتصوير الحركة الدائمة، وسرعة الانتشار، ولكي يستحضر المتلقِّي هذه الصورة.
إذًا، فالعدول إلى الجملة الفعلية لتصوير عملية البعْث تصويرًا متحرِّكًا يتلاءم مع تفاصيلها السريعة، ولردْع المنكرين له وتوبيخهم؛ لأنَّ إنكارهم ينهار من أساسه إذا تفكَّروا في مظاهر الطبيعة المتجدِّدة من حولهم؛ لذلك خُوطبوا خطابَ المترددين – أي: بخلاف مقتضى الظاهر – فجاءتِ الجملة مؤكدة بمؤكد واحد “إن”.
وهكذا أسهمتِ المفارقة اللفظية في انتقالها من الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية في تجسيم المفارقة المعنوية بين الموت والبعث، بين حالة السُّكون والجمود، وبين حالة الحَرَكة والسرعة والانتشار، وأدخلتِ المتلقي في عملية إتمام الدلالة إدخالاً غير عاديّ، عن طريق تنزيله منزلةَ المنكِر؛ لأنَّ تصرفاته الظاهرية تنمُّ عن إنكار، وعدم اعتقاد حقيقي؛ لذلك خوطب خطابَ المنكِر؛ وذلك ليعيد تصورَ مواقفِه وآرائِه في الوجود من حوله.
ومنه كذلك قوله – تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ﴾ (النساء: 27)
([1])الانزياح من منظور الدراسات الأسلوبية: 127.
([2])داجاه: ساتره بالعداوة ولم يُبدها له (اللسان – مادة: د ج و).
([3])يراجع: “الكشاف” (1/186، 187)، و”المثل السائر” (2/234)، 235)، و”المفتاح” (ص: 126).
([4])الكشاف” (3/217)، وينظر “تفسير أبي السعود” (7/77)، و”تفسير البيضاوي” (4/154)
([5])”الانتصاف” – بحاشية “الكشاف” – (3/217 – 218)، ويُنظر: “غرائب القرآن”، هامش الطبري(21/63)، و”البحر المحيط” (7/194).
([7])ونضيف: أنَّ الولد يطلق كذلك على المتبنَّى؛ ينظر: “الراغب” :: 532.
([8])ينظر: “الكشاف” (3/217)، و”روح المعاني” (21/107)، يُنظر: “أسلوب الالتفات في القرآن الكريم” (ص: 207 – 209).