الولاء والبراء

الولاء والبراء

IMG_20200517_183614 الولاء والبراء

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

إنّ العقيدة الإسلامية ليست مجرّد شعائر تُؤدّى، أو ألفاظ تُردَّد، بل هي منظومة متكاملة تُحدِّد للعبد انتماءه ومواقفه وميوله، وتُرسي في قلبه معاني التميُّز العقدي، والاعتزاز بالانتماء لهذا الدين العظيم. ومن أعظم ما تُبنى عليه العقيدة الصحيحة: الولاء والبراء، الذي هو أصل من أصول الإيمان، وركنٌ ركينٌ في منهج التوحيد، ودعامةٌ صلبةٌ في طريق الإصلاح والنجاة.

فالولاء هو المحبة والنصرة للمؤمنين، والبراء هو البغض والبراءة من الكفر وأهله، وهما ميزانٌ دقيقٌ في تعامل المسلم مع غيره، على ضوء ما جاء به الكتاب والسنة. وقد غفل كثيرٌ من المسلمين – في زمانٍ طغت فيه الشعارات الزائفة، والعولمة المادية، والتحالفات المشبوهة – عن هذا الأصل، فاختلطت عندهم المفاهيم، وضعُف التمييز بين الحق والباطل، والهدى والضلال.

ومن هنا جاءت هذه المقالة، تذكيرًا للأمة، وبعثًا للوعي العقدي، ودعوةً للرجوع إلى منهاج النبوة الصافي، في زمن اشتد فيه التلبيس، وعظُمت فيه الفتن.

أوَّلاً: أهمِّيةُ الولاء والبراء:

إنَّ المتأمِّل في واقع المسلمين اليوم وما يحدث في بلدانهم من تسلُّط أعداء الملَّة والدِّين والاستيلاء على ثرواتهم وخيرات بلدانهم، وإحداث الفتن بينهم، وفتنتهم عن دينهم وصراط ربِّهم وسُنَّة نبيِّهم ، طامَّاتٌ وبليَّاتٌ، ومصائب مدلهمَّات، وسفكٌ لدماء المسلمين والمسلمات، وانتهاكٌ صارخٌ للأعراض والمقدَّسات، وقتلٌ للأولاد والبنات، حتَّى أصبحت دماء المسلمين الزَّاكيات أرخص الدِّماء، وأعراضهم أرخص الأعراض، دسائس ومؤامرات وخيانات،  وتحالفٌ باطنيٌّ داخليٌّ مع كلِّ مَن أراد شرًّا بالبلاد والعباد، اتفاقٌ وتوافقٌ بين أعداء الدَّاخل والخارج في الحقد على الإسلام والمسلمين والسَّعي لخراب العُمران والبُنيان، سببه ومردُّه التفريط في رُكنٍ ركينٍ، وأصلٍ أصيلٍ من أصول عقيدتنا وديننا وهو: الولاء والبراء الذي جهله أوضيَّعه كثيرٌ من المسلمين، ولكنَّ المصيبة الكبرى، والدَّاهية العظمى أن يكون التفريطُ ممَّن ينتسب إلى العلم والعلماء فضلُّوا وأضلُّوا، وزلَّت بهم الأقدام، واختلطت عندهم الأفهام، فظاهروا المشركين وأعانوهم وداهنوهم ضدَّ المسلمين، ودخلوا في طاعتهم، وأظهروا الموافقة على باطلهم، وأعانوهم على المسلمين وناصروهم بالأقوال والأفعال والأموال، وصاروا من جندهم يدلُّونهم على عورات المسلمين ويحيكون معهم المخطَّطات والدَّسائس والمؤامرات فوقعوا في ناقضٍ من نواقض الإسلام وهم لا يشعرون، أو التبسَت عليهم السُّبل فهم لايعلمون، وبرز فيهم النِّفاق، واستطار فيها الكفر وكشَّر عن أنيابه، فاحتاج الأمر إلى وجوب التذكير بوجوب تعلُّم الولاء والبراء من جديد.

قال الإمام أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيِّم الجوزية المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 751هـ: (وليس التَّوحيدُ مجرَّدَ إقرارِ العبد بأنَّه لا خالقَ إلاَّ الله، وأنَّ اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، كما كان عُبَّادُ الأصنام مُقرِّين بذلك وهم مشركون، بل التَّوحيدُ يتضمَّن من محبَّةِ الله، والخضوعِ له، والذُّلِّ له، وكمالِ الانقياد لطاعته، وإخلاصِ العبادة له، وإرادةِ وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحُبِّ والبغض= ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الدَّاعية إلى المعاصي والإصرار عليها)[1].

وهذه المفاهيم ينبغي أن تُعلَّم للنَّاس عامَّتهم وخاصتهم لا سيما لطُلاَّب مدارسنا القرآنية والدَّورات الصَّيفية في مساجدنا ومراكزنا بخاصَّة، وغيرها من المدارس والمؤسَّسات التعليمية والتربوية بشكلٍ عام حتَّى نعبد الله على علمٍ، ونكون على بصيرةٍ من أمر ديننا، ونستطيع بذلك أن نميِّزَ بين المشروع والممنوع.

ثانياً: مفهوم الولاء

 

 لغة:

(وَلَيَ) الْوَاوُ وَاللَّامُ وَالْيَاءُ: أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى قُرْبٍ، مِنْ ذَلِكَ الْوَلْيُ: الْقُرْبُ، يُقَالُ: تَبَاعَدَ بَعْدَ وَلْيٍ، أَيْ قُرْبٍ. وَجَلَسَ مِمَّا يَلِينِي، أَيْ يُقَارِبُنِي، وَالْوَلِيُّ: الْمَطَرُ يَجِيءُ بَعْدَ الْوَسْمِيِّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَلِي الْوَسْمِيَّ.

وَمِنَ الْبَابِ الْمَوْلَى: الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ، وَالصَّاحِبُ، وَالْحَلِيفُ، وَابْنُ الْعَمِّ، وَالنَّاصِرُ، وَالْجَارُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ آخَرَ فَهُوَ وَلِيُّهُ. وَفُلَانٌ أَوْلَى بِكَذَا، أَيْ: أَحْرَى بِهِ وَأَجْدَرُ)[2].

اصطلاحاً:

والوَلاية-بالفتح- هي: المحبَّة والنُّصرة، يقال: والى ولاية يعني: أحبَّ محبَّة، ونصر نصرة، وأمَّا الوِلاية- بالكسر- فهي: الملك والإمارة قال جلَّ وعلا: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) (الكهف 44) يعني: أنَّ المحبَّة والنُّصرة إنَّما هي لله جلَّ وعلا وليست لغيره)[3].

قال شيخ الإسلام تقيُّ الدِّين أبو العَبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمَّد بن تيميَّة الحرَّاني الحنبلي الدِّمشقي المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 728هـ: (وأصل الْمُوَالَاة هِيَ: الْمحبَّة، كَمَا أَنَّ أصل المعاداة البغض، فَإِنَّ التحاب يُوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يُوجب التباعد وَالِاخْتِلَاف، وَقد قيل الْمولي من الْوَلِيّ وَهُوَ الْقرب، وَهَذَا يَلِي هَذَا أَيْ: هُوَ يقرب مِنْهُ، والعدو من العدواء وَهُوَ الْبعد، وَمِنْه العدوة وَالشَّيْء إِذا ولي الشَّيْء ودنا مِنْهُ وَقرب إِلَيْهِ اتَّصل بِهِ، كَمَا أَنَّه إِذا عدي عَنهُ ونأي عَنهُ وَبعد مِنْهُ كَانَ مَاضِيا عَنهُ.

فأولياء الله ضدَّ أعدائه يقرِّبهُمْ مِنْهُ ويدنيهم إِلَيْهِ ويتولاَّهم ويتولَّونه، ويحبُّهم ويرحمهم وَيكون عَلَيْهِم مِنْهُ صَلَاة، وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم وَهُوَ إبعاد مِنْهُ وَمن رَحمته ويبغضهم ويغضب عَلَيْهِم، وَهَذَا شَأْن المتوالين والمتعادين، فَالصَّلَاة ضدَّ اللَّعْنَة وَالرَّحْمَة، والرِّضوان ضدَّ الْغَضَب والسَّخط، وَالْعَذَاب ضدَّ النَّعيم، قَالَ تَعَالَى فِي حقِّ الصَّابرين: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة 157))[4].

unzipped%2Fphoto1%2Fphoto1phone الولاء والبراء

ثالثا مفهوم البراء

لغة:

التَّبَاعُدُ مِنَ الشَّيْءِ وَمُزَايَلَتُهُ، مِنْ ذَلِكَ الْبُرْءُ وَهُوَ: السَّلَامَةُ مِنَ السُّقْمِ، يُقَالُ: بَرِئْتُ وَبَرَأْتُ، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ: بَرَأْتُ مِنَ الْمَرَضِ أَبْرُؤُ بُرُوءًا، وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ يَقُولُونَ: بَرَأْتُ أَبْرَأُ بَرْءًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: بَرِئْتُ إِلَيْكَ مِنْ حَقِّكَ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَنَا بَرَاءٌ مِنْكَ، وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْكَ.

         قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) (الزُّخرف 26)، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ: (إِنِّي بَرِيءٌ) (الأنعام 78)، فَمَنْ قَالَ: أَنَا بَرَاءٌ لَمْ يُثَنِّ وَلَمْ يُؤَنِّثْ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْبَرَاءُ وَالْخَلَاءُ مِنْ هَذَا [5].

وَقَالَ الفَرَّاء فِي قَول الله عزَّ وجلَّ: (وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا) (الزُّخرف 26) الْعَرَب تَقول: نَحن مِنْك الَبَراء والخَلاء، وَالْوَاحد والاثنان والجميع من المذكَّر والمؤَنَّث، يُقَال فِيهِ: بَراء، لِأَنَّهُ مَصْدر، وَلَو قَالَ: بريء لقِيل فِي الِاثْنَيْنِ: بريئان، وَفِي الْجَمِيع: بريئون، وبِراء.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: الْمَعْنى فِي البَراء أَيْ: ذُو البَراء مِنْكُم، وَنحن ذُو البَراء مِنْكُم.

وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ نَحواً مِمَّا قَالَ الفَرَّاء، وَزَاد فِيهِ: نَحن بُرآء، على فُعلاء، وبِراء، على فِعَال، وأبْرياء)[6].

اصطلاحاً:

بُغْضُ الطَّواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويَّة: كالأهواء والآراء)، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه.

وبذلك نعلم، أنَّنا عندما نقول: إنَّ ركنيْ الولاء والبراء هما: الحبُّ والنُّصرة في الولاء، والبغض والعداوة في البراء، فنحن نعني بالنُّصرة وبالعداوة هنا النُّصرة القلبيَّةَ والعداوةَ القلبيَّة، أيْ: تمنِّي انتصار الإسلام وأهله، وتمنِّي اندحار الكفر وأهله، أمَّا النُّصرة العملية والعداوة العمليَّة فهما ثمرةٌ لذلك المعتقد، لا بُدَّ من ظهورها على الجوارح[7].

%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%A1 الولاء والبراء

رابعاً: لماذا التركيز على الولاء والبراء؟:

جاء التركيز على هذا الموضوع في هذا الوقت بالذَّات لأنَّ الولاء والبراء من صُلب ديننا، وهو من مقتضيات كلمة التوحيد، ولاختلاط الحابل بالنَّابل عند كثيرٍ ممَّن ينتسب لهذا الدِّين حيث لا يفرِّق بين أصول الدِّين وفروعه، ولبلية اختلاط المسلمين بغيرهم من أعداء الملَّة والدِّين، فأصبحوا أذلَّةً على الكافرين، أعزَّةً على المؤمنين خلافًا لما وصف به القرآن الأوائل من فضلاء الصَّحابة رضوان الله عنهم فقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة 5).

قال الإمام الحافظ عماد الدِّين أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 774هـ: (هَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الكُمَّل، أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مُتَوَاضِعًا لِأَخِيهِ وَوَلِيِّهِ مُتَعَزِّزًا عَلَى خَصْمِهِ وَعَدُوِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح 29)،  وفي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ   أَنَّهُ الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ، فَهُوَ ضَحُوكٌ لِأَوْلِيَائِهِ، قَتَّالٌ لأعدائه[8].

قال الشَّيخ الإمام عبد الرَّحمن بن ناصر بن عبد الله السَّعدي المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 1376هـ: (فهم للمؤمنين أذلَّة من محبَّتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشَّيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذِّبين لرسله أعزَّة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كلِّ سببٍ يحصل به الانتصار عليهم، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)(الأنفال)، وقال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح 29) فالغلظة والشِّدَّة على أعداء الله ممَّا يقرِّبُ العبد إلى الله، ويوافق العبد ربَّه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشِّدَّة دعوتهم إلى الدِّين الإسلامي بالتي هي أحسن، فتجتمع الغلظة عليهم، واللِّين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم)[9].

جاء التأكيد على عقيدة الولاء والبراء لأنَّنا في زمنٍ عمد فيه المنبطحون وعملاء الدَّاخل من المنافقين المتغلغلين في أماكن القرار والتأثير لا سيما بعد انتشار وسائل الإعلام الحديثة والشَّبكة العنكبوتية التي جعلت العالم قرية صغيرة اختلط فيها الغثُّ بالسَّمين، والحقُّ بالباطل، فاستغلَّ هؤلاء المجرمون هذا الفضاء لتغيير مناهج التدريس والتفكير، والتربية والتكوين، وتهوين الذُّنوب والحرام في النُّفوس، وتلميع التافهين، ونشر ثقافة التفاهة المسيطرة على العقول والقلوب والجيوب، فانسلخ النَّاس عن دينهم، وتربَّوا على حبِّهم والولاء لهم،  فتجد من يصلِّي معك في المسجد ويضع كتفه إلى جانب كتفك لا يُحدِّثك ولا يبشُّ في وجهك، وإنَّ قلبه وعقله لَيسبِّح بحمد المجرمين ودُعاة الفسق والفجور وأفضالهم على العالم بما نشروه من علمٍ وحضارةٍ.. فأخرجوا جيلاً يتسم بالميوعة والجهل والانحراف، يداهن الباطل وأهله، ولا يرقب في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّة.

وقد حذَّرنا الشَّرع أشدَّ التحذير من مظاهرة المشركين، وموافقتهم على دينهم خوفًا منهم ومداراة لهم، ومداهنة لهم بحُجَّة دفع شرورهم ومكايدهم، والأدلَّة على ذلك في كتاب الله وسُنَّة رسول الله وفي أقوال الصَّحابة والسَّلف رضوان الله عنهم.

قال الله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة 217).

قال الشَّيخ الإمام عبد الرَّحمن بن ناصر بن عبد الله السَّعدي المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 1376هـ: (ثمَّ أخبر تعالى أنَّهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم، وإنَّما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم، ويكونوا كفَّارًا بعد إيمانهم حتَّى يكونوا من أصحاب السَّعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك، ساعون بما أمكنهم، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة 32)، وهذا الوصف عامٌّ لكلِّ الكفَّار، لا يزالون يقاتلون غيرهم، حتَّى يردُّوهم عن دينهم، وخصوصاً، أهل الكتاب، من اليهود والنَّصارى، الذين بذلوا الجمعيات، ونشروا الدُّعاة، وبثُّوا الأطبَّاء، وبنوا المدارس، لجذب الأُمم إلى دينهم، وإدخالهم عليهم كلّ ما يمكنهم من الشُّبهات التي تُشكِّكهم في دينهم.

ولكنَّ المرجوَّ من الله تعالى، الذي مَنَّ على المؤمنين بالإسلام، واختار لهم دينه القيِّم، وأكمل لهم دينه، أن يُتِمَّ عليهم نعمته بالقيام به أتمَّ القيام، وأن يخذل كلَّ من أراد أن يُطفئ نوره، ويجعل كيدهم في نحورهم، وينصر دينه، ويُعلي كلمته.

وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفَّار، كما صدقت على من قبلهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)(الأنفال 36))[10].

وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران 28).

قال شيخ المفسِّرين الإمام أبو جعفر محمَّد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشَّهير بالإمام الطَّبَرِي المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 310هـ: (وهذا نهيٌ من الله عزَّ وجلَّ المؤمنين أن يتخذوا الكفَّارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر “يتَّخذِ”، لأنَّه في موضع جزم بالنَّهي، ولكنَّه كسر “الذَّال” منه، للسَّاكن الذي لقيه وهي ساكنة.

ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيُّها المؤمنون، الكفَّارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنَّه مَنْ يفعل ذلك (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر (إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) إلاَّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعلٍ.

كما حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبد الله بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاوية بنُ صالحٍ، عن عليٍّ عن ابن عباسٍ قوله: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

         قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطِفوا الكفَّار، أو يَتَّخِذوهم وَليجةً مِن دونِ المؤمنين، إلاَّ أن يكون الكفَّارُ عليهم ظاهرين، فيُظهروا لهم اللُّطف، ويُخالفوهم في الدِّين، وذلك قوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)[11].

وقال الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القُرشي الدِّمشقي المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 774هـ: (ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودَّة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) (آل عمران 28)  أي: يحذِّركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال هاهنا: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) أيْ: حجَّة عليكم في عقوبته إيَّاكم.

قال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا مالك بن إسماعيل، حدَّثنا سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس قوله: (سُلْطَانًا مُبِينًا) قال: كلُّ سُلطان في القرآن حجَّة، وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومُحمَّد بن كعب القُرَظي، والضَّحَّاك، والسُّدِّي والنَّضر بن عَرَبي)[12].

57fc673c-45b4-4964-9ecd-ebeb67b19283-750x1000-6JV38562GQjMG44Ru2MCGHYBYIrT6XpYSZp5aVq9 الولاء والبراء

خامساً: التفريق بين المودَّة والمحبَّة والمعاملة بالحسنى:

هنا أمرٌ مهمٌّ تجدر الإشارة إليه وقد أشكل على كثيرٍ من الفضلاء وهي أنَّه لا بدَّ من التفريق بين معاملة الكفَّار بالحسنى والتجارة معهم والتعامل معهم، وتبادل الهدايا معهم وبين مودَّتهم والميل القلبيِّ نحوهم، وتفضيلهم على المسلمين كما هو الواقع المرير لكثير من المسلمين الذين انبهروا بالكفَّار من اليهود والنَّصارى وقدَّموهم في المودَّة والمحبَّة على المؤمنين بل تعدَّى الأمر إلى اتخاذهم أحباباً وأصحاباً يتعاونون معهم ويمدُّونهم بمعلومات عن ديار الإسلام والمسلمين فيها هدمٌ للإسلام والمسلمين.

قال الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة 8).

وقد روى البخاريُّ رحمه الله تعالى في صحيحه حديث أسماء رضي الله عنها أنَّها قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهي مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ قُرَيْشٍ إذْ عَاهَدَهم، فَاستَفْتَيتُ رَسولَ اللهِ ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهي رَاغِبَةٌ، أفأَصِلُ أُمِّي؟ قال: “نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ”[13].

قال الإمام الحافظ أحمد بن عليّ بن حجرٍ العسقلاني المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 852هـ: (البِرُّ والصِّلةُ والإحسانُ لا يَستلزِمُ التَّحابُبَ والتَّوادُدَ المنهيَّ عنه في قَولِه تعالى: (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ… الآية (المجادلة 22)، فإنَّها عامَّةٌ في حَقِّ مَن قاتَلَ، ومَن لم يُقاتِلْ واللهُ أعلَمُ)[14].

وقال الإمام الحافظ ابن بطَّالٍ أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 449هـ: (الشِّراءُ والبَيعُ مِنَ الكُفَّارِ كُلِّهم جائِزٌ، إلَّا أنَّ أهلَ الحَربِ لا يبُاعُ منهم ما يَستعينونَ به على إهلاكِ المُسلِمينَ مِن العدَّةِ والسِّلاحِ، ولا ما يَقْوَونَ به عليهم)[15].

وَسُئِلَ شيخ الإسلام تقيّ الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمَّد بن تيميَّة الحرَّاني الحنبلي الدِّمشقي المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 728هـ: (عَنْ مُعَامَلَةِ التَّتَارِ: هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ لِمَنْ يُعَامِلُونَهُ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا مُعَامَلَةُ التَّتَارِ فَيَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ فِي أَمْثَالِهِمْ وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِنْ مُعَامَلَةِ أَمْثَالِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا يَبْتَاعُ مِنْ مَوَاشِي التُّرْكُمَانِ وَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَخَيْلِهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ لِأَمْثَالِهِمْ، فَأَمَّا إنْ بَاعَهُمْ وَبَاعَ غَيْرَهُمْ مَا يُعِينُهُمْ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ، كَالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ قِتَالًا مُحَرَّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة 2)، وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا [16] فَقَدْ لَعَنَ الْعَاصِرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْصِرُ عِنَبًا يَصِيرُ عَصِيرًا وَالْعَصِيرُ حَلَالٌ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ خَلًّا وَدِبْسًا وَغَيْرَ ذَلِكَ)[17].

وقال رحمه الله تعالى:  (فصلٌ في أعياد الكفَّار،  النَّهي عن فعل ما يعين الكفَّار في أعيادهم): ثمَّ إنَّ الرَّجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلَّ عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله إلى أرض الشَّام، وهي  دار حرب، وحديث عمر رضي الله عنه وأحاديث أخر بسطت القول فيها في غير هذا الموضع  مع أنَّه لا بدَّ أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يُستعان به على المعصية.

فأمَّا بيع المسلمين لهم في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم، من الطَّعام واللِّباس والرَّيحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم، فهذا فيه نوع إعانةٍ على إقامة عيدهم المحرَّم، وهو مبنيٌّ على أصل وهو: أنَّ بيع الكفَّار عنباً أو عصيراً يتخذونه خمراً لا يجوز،  وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحاً يقاتلون به مسلمًا)[18].

سادساً: الفرق بين المُداهنة والمُداراة:

يقول الإمام الفقيه العالم العلاَّمة، خاتمةُ المحقّقين، وسندُ المدقِّقين، القدوةُ البركةُ الهُمامُ الرَّبَّاني أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن قاسم بن سعيد الْعُقباني التلمساني المتوفَّى رحمه الله تعالى 871هــ: (الفرق بين الْمُداهنة والْمُداراة أنَّ الْمُداهنة حقيقتها: بذل الدِّين بالدُّنيا، والْمُداراة حقيقتها: بذل الدُّنيا بالدِّين.

فالأولى: كما يقع من إطراء الظَّلمة بمدحهم بوجوه المدح، وتحسين أفعالهم وأقوالهم بالتماس المخارج الحسنة لهم والتأويلات البعيدة، مع تحقُّق المداهن لاستقباح ما هم عليه بواجب الإنصاف وطريق الحقِّ، وليس له ما يحمله على ذلك سوى ما ينال من دنياهم، فقد باع دينه بتقريرهم على مسالك الباطل بدنياه السَّمِجة الرَّكيكة في سبيل المعاوضة الرَّديَّة، مع ما ينضاف لذلك من إثم إغرائهم على الازدياد ممَّا انتحلوا في مساعي هواهم، وسدِّ باب تقواهم، فهذا عين الإدْهان، وما كان في معناه مداهنة واستعمال النَّاس له كثير.

وأمَّا الثانية: التي هي الْمُداراة فهي: إنَّما أن يُنيلَ المداري غرضًا من دنياه يجتلب به مودَّة من يستكفي شرَّه، أو يستدفع ضرَّه، أو يستحصل فائدة منه، ألجأه الوقت إليها، من غير أن يكون وراء ذلك شيء ممَّا في طريق المداهنة من الاختلاف بقوله لهم ما يحبُّون، وحقيقة الأمر على خلافه)[19].

وقال حُجَّة الإسلام الإمام العلاَّمة أبو حامدٍ الغزالي الطُّوسي المتوفَّى رحمه الله سنة 505هـ: (الفرق بين المُدَاراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء، فإن أغضيت لسلامة دينك، ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء، فأنت مدارٍ، وإن أغضيت لحظِّ نفسك، واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن)[20].

وقال الإمام العلاَّمة أبو عبدِ الله شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكرِ بنِ أيُّوبَ بنِ سَعْدِ بنِ حَرِيْزٍ الزُّرْعِيُّ الدِّمَشقِيُّ الحَنبَلِيُّ  المشهور بابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّة المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 751هــ: (المداراة: صفةُ مدحٍ، والمداهنة: صفة ذمٍّ وَالْفرق بَينهمَا أَنَّ المداري يتلطَّف بِصَاحِبِهِ حَتَّى يسْتَخْرج مِنْهُ الْحقَّ أَو يردَّهُ عَن الْبَاطِل، والمداهن يتلطَّف بِهِ ليقرَّهُ على باطله ويتركه على هَوَاهُ، فالمداراة: لأهل الْإِيمَان، والمداهنة: لأهل النِّفَاق، وَقد ضُرب لذَلِك مثل مُطَابق وَهُوَ: حَال رجلٍ بِهِ قرحَة قد آلمته فَجَاءَهُ الطَّبِيب المداوي الرَّفيق فتعرَّف حَالهَا ثمَّ أَخذ في تليينها حَتَّى إِذا نَضِجَتْ أَخذ في بطِّها بِرِفْقٍ وسهولةٍ حَتَّى أخرج مَا فِيهَا ثمَّ وضع على مَكَانهَا من الدَّوَاء والمرهم مَا يمْنَع فَسَاده وَيقطع مادته ثمَّ تَابع عَلَيْهَا بالمراهم الَّتِي تنْبت اللَّحْم ثمَّ يذر عَلَيْهَا بعد نَبَات اللَّحْم مَا ينشف رطوبتها ثمَّ يشدُّ عَلَيْهَا الرِّبَاط وَلم يزل يُتَابع ذَلِك حَتَّى صلحت، والمداهن قَالَ لصَاحِبهَا: لَا بَأْس عَلَيْك مِنْهَا، وَهَذِه لَا شَيْء فاسترها عَن الْعُيُوب بِخرقَة ثمَّ الْهُ عَنْهَا فَلَا تزَال مدَّتهَا تقوى وتستحكم حَتَّى عظم فَسَادهَا)[21].

وقال العلاَّمة أبو الحسن عليُّ بن خلف بن عبد الملك الشَّهير بابن بطَّالٍ المتوفَّى رحمه الله سنة 449هــ: (المداراة: من أخلاق المؤمنين، وهي: خفض الجناح للنَّاس، ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الأُلفة وسلِّ السَّخيمة… وقال بعض العلماء: وقد ظنَّ من لم ينعم النَّظر أنَّ المداراة هي: المداهنة، وذلك غلط، لأنَّ المداراة: مندوبٌ إليها، والمداهنة: محرَّمة، والفرق بينهما بيِّنٌ.

وذلك أنَّ المداهنة اشتقَّ اسمها من الدِّهان الذي يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، وفسَّرها العلماء فقالوا: المداهنة هي: أن يلقى الفاسق المظهر لفسقه فيؤالفه ويؤاكله ويشاربه، ويرى أفعاله المنكرة ويرضيه الرِّضا بها ولا ينكرها عليه ولو بقلبه وهو أضعف الإيمان، فهذه المداهنة التي برَّأ الله عزَّ وجلَّ منها نبيَّه : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)(القلم9)، والمدَاراة هي الرِّفق بالجاهل الذي يسر بالمعاصي، ولا يجاهر بالكبائر، والمعاطفة في ردِّ أهل الباطل إلى مراد الله بلينٍ ولطفٍ حتَّى يرجعوا عمَّا هم عليه)[22].

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

thumb_233831_700_400_0_0_exact الولاء والبراء

 المراجع: 

[1] مدارج السَّالكين 1/509.

[2]  معجم مقاييس اللُّغة أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرَّازي، أبو الحسين المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 395هــ، المحقِّق: عبد السَّلام محمَّد هارون، 6/141 دار الفكر 1399هـ/1979م.

[3] التمهيد لشرح كتاب التوحيد، دار التوحيد ص 365 الطَّبعة الأولى 1424هـ/2003م.

[4] جامع الرَّسائل 2/384 المحقِّق: د. محمَّد رشاد سالم دار العطاء الرِّياض الطَّبعة الأولى 1422هـ/2001م.

[5] معجم مقاييس اللُّغة 1/236.

[6]  تهذيب اللُّغة محمَّد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور المتوفَّى رحمه الله تعالى سنة 370هـ 15/ 193 المحقِّق: محمَّد عوض مرعب دار إحياء التراث العربي بيروت الطَّبعة الأولى 2001م.

[7]  الولاء والبراء بين الغلوِّ والجفاء في ضوء الكتاب والسُّنَّة حاتم بن عارف بن ناصر الشَّريف العوني ص 3 موقع وزارة الأوقاف السُّعودية بدون بيانات.

[8]  تفسير ابن كثيرٍ 5/260.

[9]  تيسير الكريم الرَّحمن ص 235.

[10]  تيسير الكريم الرَّحمن ص 97.

 [11] تفسير الطَّبري 5/316.

[12]  تفسير ابن كثير 2/441.

[13]  رواه البخاريُّ كتاب الأدب باب صلة الوالد المشرك (5978)، ومسلمٌ كتاب الزَّكاة باب فضل النَّفقة والصَّدقة على الأقربين (1003).

[14]  فتح الباري 5/233.

[15]  شرح صحيح البخاري لابن بطَّال 6/338 تحقيق أبي تميم ياسر بن إبراهيم مكتبة الرُّشد الرِّياض الطَّبعة الثانية 1423هــ/2003م.

[16]  رواه أحمد في مسند بني هاشم مسند عبد الله بن العبَّاس (2897)، قال الشَّيخ شُعيب الأرناؤوط: صحيحٌ لغيره، وهذا إسنادٌ حسنٌ.

[17]  مجموع الفتاوى 29/275.

[18] اقتضاء الصِّراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 2/15المحقِّق: ناصر عبد الكريم العقل دار عالم الكتب، بيروت، لبنان
الطَّبعة السَّابعة، 1419هـ/1999م.

[19] تحفة النَّاظر وغُنية الذَّاكر صفحة 145-146.

[20] إحياء علوم الدِّين 2/182.

[21] الرُّوح 1/690-691 دراسة وتحقيق الدُّكتور بسَّام علي سلامة العمُّوش طبعة دار ابن تيميَّة للنَّشر والتوزيع والإعلام الرِّياض الطَّبعة الأولى 1406هـ/1986م.

[22] شرح صحيح البخاري لابن بطَّالٍ 9/305-306.

نصيحةٌ بوجوب  تعلُّم الولاء والبراء من جديدٍ

كتبه أبو زكريا عمر عمَّار أقنيني الجزائري

خرِّيج الأكاديمية العربية الدَّولية

15 شوَّال 1446هــ/16 أفريل 2025م.

(مشاركة خارجية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top