ثقافة الجودة في المستشفيات وأهميتها

يُعدّ مفهوم ثقافة الجودة في المستشفيات وأهميتها من الركائز الأساسية في إدارة المؤسسات الحديثة، لا سيما في القطاعات الحيوية . إنها ليست مجرد إضافة تجميلية أو مجموعة من القواعد الجامدة؛ بل هي فلسفة متكاملة تُوجّه كل جانب من جوانب العمل. لا تقتصر الجودة على مجموعة من الإجراءات والضوابط الفنية الموثقة فحسب، بل تمتد لتشمل منظومة قيم، معتقدات، ومبادئ راسخة تُشكل نسيج السلوكيات التنظيمية اليومية. هذه المنظومة تتغلغل وتنتشر في عمق الهيكل التنظيمي للمنظمة بأكملها، من الإدارة العليا وحتى أدنى المستويات الوظيفية.
ثقافة الجودة تُجسّد”الطريقة التي تُنجز بها الأمور هنا” عندما يتعلق الأمر بالتميز والإتقان. إنها القوة الدافعة الكامنة وراء التزام الأفراد بتحقيق التميز والكفاءة في كل ما يُقدمونه، سواء كان ذلك في رعاية المرضى، أو إدارة العمليات، أو التعامل مع الزملاء أو الزبائن. هذا الالتزام ينبع من فهم عميق بأن الجودة ليست هدفًا نهائيًا، بل هي رحلة مستمرة من التحسين والتطوير في جوهرها، تُعزز ثقافة الجودة الشعور بالمسؤولية المشتركة تجاه تحقيق أعلى مستويات الأداء، مما يُحوّل السعي نحو التميز إلى جزء لا يتجزأ من الهوية المؤسسية والسلوك اليومي.
– مفهوم ثقافة الجودة:
تشير ثقافة الجودة إلى المعتقدات والمواقف والقيم والسلوكيات والممارسات الجماعية داخل المؤسسة، والتي تُعطي الأولوية للجودة وتُعززها كعنصر أساسي في عملياتها. وهي تُمثل مجموعة من المعايير والتوقعات المشتركة التي تُرشد الأفراد والفرق في سعيهم نحو التميز والتحسين المستمر ورضا العملاء.
في ثقافة الجودة، يلتزم كل فرد في المؤسسة، من الإدارة العليا إلى موظفي الخطوط الأمامية، بتقديم منتجات أو خدمات تلبي توقعات العملاء أو تتجاوزها. ويتجاوز هذا الالتزام مجرد اتباع الإجراءات والمعايير المعمول بها؛ بل يشمل نهجًا استباقيًا لإدارة الجودة، حيث يتحمل الجميع مسؤولية جودة عملهم ويسعى جاهدًا لتحقيق التميز.
وعندما يتعلق الموضوع بالجودة يتجلى هذا المفهوم في ثلاثية متكاملة
- الجانب المعرفي (المعتقدات): إيمان راسخ لدى جميع العاملين بأن الجودة ليست مجرد هدف إجرائي بل هي مسؤولية جماعية وفردية تقع على عاتق كل من يعمل في المنظمة وأن السعي لتحقيقها يعد جزءا لا يتجزأ من رسالة المنظمة وقيمها الأساسية
- الجانب الوجداني (القيم): تقدير داخلي وأخلاقي لأهمية التميز في الأداء والتركيز على العميل والشفافية والتعلم من الأخطاءهذه القيم تشكل الدافع وراء السلوكيات الموجهة نحو الجودة.
- الجانب السلوكي (الممارسات):تترجم هذه المعتقدات والقيم الى ممارسات وسلوكيات يومية ملموسة مثل المبادرة الى حل المشكلات والتعاون بين الأقسام والاستماع الفعال للمرضى وتطبيق معايير الهمل بدقة وعناية
في سياق المستشفيات تعني ثقافة الجودة ان كل فرد -من الإدارة العليا وصناع القرار الى الطاقم الطبي والتمريض والإداري والفني- يدرك بشكل عميق ان سلامة المريض وجودة رعايته ورضاه بالإضافة الى كفاءة العمليات التشغيلية هي الأولوية القصوى ويسهم بنشاط ووعي في تحقيق هذا الأهداف.
– أهمية ثقافة الجودة في المستشفيات:
لا تعد ثقافة الجودة مجرد ميزة تنافسية إضافية للمستشفيات بل هي ضرورة استراتيجية قصوى وحتمية تنظيمية لتحقيق الاستدامة والتميز في بيئة الرعاية الصحية المعقدة والمتغيرة تكمن أهميتها في قدرتها على:
- تحسين جودة الرعاية الصحية وسلامة المرضى: تعزز ثقافة الجودة من الالتزام بالبروتوكولات الطبية والممارسات المبنية على البراهين وتطبيق أعلى معايير السلامة مما يقلل من الأخطاء الطبية ويحسن النتائج الصحية للمرضى
- زيادة رضا المرضى: عندما يتم دمج قيم التركيز على المريض في صميم ثقافة المنظمة فإن جميع التفاعلات مع المريض تصبح موجهة لتلبية توقعاته وتجاوزها مما يؤدي الى زيادة رضا المرضى وبناء الثقة بين المريض والمشفى.
- تنمية قدرات العاملين وتحفيزهم:توفر البيئة التي تقدر الجودة فرصا للتعلم المستمر والتطوير مما يعزز من مهارات العاملين ويمكنهم من المساهمة بفعالية أكبر كما ان اشراكهم في عمليات التحسين يعزز من شعورهم بالمسؤولية مما يزيد من رضاهم الوظيفي ويقلل من معدلات دوران العمل.
- تعزيز الابتكار والقدرة على التكيف:تشجع ثقافة الجودة على البحث عن طرق جديدة وأفضل لإنجاز المهام وتحفز التفكير الإبداعي في حل المشكلات وتطوير الخدمات هذه المرونة والقدرة على الابتكار تمكن المستشفى من التكيف بفعالية مع المتغيرات التكنولوجية والتنظيمية وتوقعات المجتمع.
- بناء سمعة تنظيمية قوية وثقة مجتمعية: حيث ان المستشفى الذي يظهر التزاماً واضحاً بالجودة عبر ثقافته التنظيمية يعرف بالتميز والموثوقية مما يعزز سمعته وصورته في المجتمع ويوطد ثقة المرضى والجهات المعنية.
– أبعاد ثقافة الجودة:
لتحليل ثقافة الجودة وتطبيقها بشكل منهجي وقياسي، تُصنف عادةً إلى مجموعة من الأبعاد المترابطة التي تُشكل مجتمعة إطارها الشامل. في دراستنا هذه، نركز على الأبعاد التالية التي تُمثل مؤشرات أساسية لقياس مدى تبني المشفى لثقافة الجودة، استنادًا إلى الأدبيات الشائعة في إدارة الجودة الشاملة وسياق الرعاية الصحية:
– التزام الإدارة العليا:
يُعد التزام القيادة العليا عنصرًا أساسيًا في نجاح أي مبادرة تتعلق بإدارة الجودة الشاملة، إذ يُشكل هذا الالتزام الأساس الذي تُبنى عليه ثقافة الجودة داخل المنظمة. ويتجلى هذا الدور القيادي في بلورة رؤية واضحة وملهمة للجودة، وتوفير الموارد المالية والبشرية والتكنولوجية اللازمة، إلى جانب المشاركة الفاعلة في جهود التحسين المستمر. وعندما تُجسّد القيادة العليا قيم الجودة من خلال سلوكها اليومي، فإنها تصبح قدوة للعاملين، مما يعزز من احتمالية تبنّيهم للجودة كجزء أصيل من ممارساتهم العملية اليومية.
– التركيز على المريض:
يُشكل المريض المحور الأساسي للعملية العلاجية، ويُعد التركيز عليه من أهم أبعاد ثقافة الجودة في المستشفيات. يتطلب ذلك فهمًا دقيقًا لاحتياجات المرضى وتوقعاتهم، مع الاستماع الفعّال لتعليقاتهم وملاحظاتهم واستخدامها كوسيلة لتحسين جودة الرعاية المقدمة. كما يشمل هذا البُعد تصميم الخدمات الصحية بطريقة تراعي احترام كرامة المريض، وتوفير المعلومات الكافية له، وضمان سلامته وراحته طوال فترة العلاج. يُعتبر رضا المرضى مؤشراً حيوياً على جودة الرعاية ونجاح المستشفى في تحقيق أهدافه.
– مشاركة وتمكين العاملين:
يُعد العاملون في الخطوط الأمامية، مثل الأطباء والممرضين والفنيين والإداريين، الأكثر دراية بمواطن الخلل وفرص التحسين في العمليات الصحية. تُعزز ثقافة الجودة مشاركة جميع المستويات الوظيفية في تحديد مشكلات الجودة واقتراح حلول فعالة. ويُتاح ذلك من خلال تمكين العاملين ومنحهم الصلاحيات اللازمة لاتخاذ قرارات تعزز من أدائهم ضمن إطار عملهم، بالإضافة إلى توفير قنوات تواصل منظمة تسمح لهم بالتعبير عن أفكارهم وملاحظاتهم. كما تلعب آليات تقدير ومكافأة الجهود دورًا مهمًا في تعزيز روح الابتكار والتحسين المستمر.
– التحسين المستمر:
يمثل التحسين المستمر فلسفة جوهرية تسعى إلى تطوير العمليات والخدمات بشكل دائم ومستدام، مع رفض القبول بالوضع الراهن أو الاقتصار على المعايير الدنيا فقط. يعتمد هذا البُعد على تحليل الأداء بشكل دوري لتحديد نقاط الضعف والقصور، والتي تُعتبر فرصًا للتعلم والتطوير بدلاً من مجرد أخطاء تستوجب العقاب. كما يشمل تطبيق آليات منهجية لمراجعة وتحديث الإجراءات والسياسات التشغيلية، مع تشجيع ثقافة الابتكار والتجريب المستمر للوصول إلى مستويات أعلى من الجودة والكفاءة تدريجيًا. يشكل هذا النهج إطارًا عمليًا لتحسين الأداء المؤسسي وضمان تقديم خدمات صحية ذات جودة عالية تلبي احتياجات المرضى والمجتمع .
– التدريب:
يُعتبر التدريب استثمارًا استراتيجيًا في رأس المال البشري وداعمًا رئيسيًا لثقافة الجودة في المستشفيات. فهو يضمن تزويد العاملين بالمعارف النظرية والمهارات العملية اللازمة لفهم مبادئ الجودة وتطبيق أدواتها وتقنياتها بفعالية، مما يسهم في تحسين أدائهم في تقديم الخدمات الصحية. كما يعزز التدريب الوعي بأهمية الجودة ومسؤولية كل فرد تجاه تحقيقها، مما يمكّن العاملين من المشاركة الفعالة في تحقيق أهداف الجودة الشاملة للمؤسسة الصحية .
وانطلاقاً مما سبق، نجد أن تطبيق الأبعاد الخمسة يضمن للمؤسسة الوصول إلى درجة عالية من الكفاءة التشغيلية، ولكن حتى يتم تطبيق أبعاد ثقافة الجودة السابقة الذكر، يجب على المؤسسة تحقيق ما يلي:
- قناعة ودعم وتأييد الإدارة العليا لثقافة الجودة.
- تبني الإدارة العليا والعاملين لثقافة الجودة وتعاونهما في تبني هذه الثقافة وتطبيقها.
- وجود أهداف محددة مشتقة من احتياجات العملاء وسعي الإدارة العليا والعاملين معاً لتحقيقها.
- منح العاملين الثقة وتشجيعهم على أداء العمل وتقدير المتميز منهم.
- قياس الأداء للوقوف على كافة جوانب العمل ومستويات الجودة في ضوء أهداف خطة التحسين.
- توفير البيانات الدقيقة التي ترشد عملية اتخاذ القرار.
- استخدام وتطوير أساليب ونماذج حل المشكلات وتدريب العاملين عليها وإزالة الحواجز من أمام تحسين الجودة واعتبارها مستمرة لا تتوقف بانتهاء المشروع أو مرحلة عمل ما.
– مراحل تطبيق ثقافة الجودة:
إن تبني وتطبيق ثقافة الجودة في المشفى الوطني ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو مسار تحولي يتطلب منهجية واضحة والتزامًا مستمرًا. بناءً على المراحل العامة لتطبيق ثقافة الجودة، يمكن تكييفها لتناسب السياق المحدد للمشفى مع الأخذ في الاعتبار طبيعته الخدمية العامة ومحدودية الموارد أحيانًا.
1- مرحلة التقييم والتخطيط:
تبدأ هذه المرحلة بفهم عميق للواقع الحالي داخل المشفى. يتضمن ذلك تقييمًا دقيقًا للثقافة التنظيمية السائدة، وتحديد مدى وعي العاملين بالجودة وأهميتها، والكشف عن أي فجوات أو تحديات قد تعيق تبني ثقافة الجودة (مثل مقاومة التغيير أو نقص المعرفة). يتم في هذه الخطوة أيضًا تحديد الأولويات الأكثر إلحاحاً لتحسين جودة الرعاية وسلامة المرضى وكفاءة العمليات، وصياغة رؤية واضحة للجودة تتناسب مع رسالة المشفى كجهة حكومية تخدم المجتمع. يجب أن تُظهر الإدارة العليا في المشفى التزاماً لا يتزعزع بهذه الرؤية، وتُخصص الموارد الممكنة، وتُقدم دعماً واضحاً لتوجيه الجهود نحو تحقيق أهداف الجودة.
2- مرحلة التنفيذ وبناء القدرات:
تُركز هذه المرحلة على تفعيل الرؤية على أرض الواقع. تبدأ بـنشر الوعي بأهمية الجودة في جميع الأقسام والوحدات، وتوضيح كيف تساهم الجودة في تحسين صحة المجتمع وكفاءة الموارد العامة. يتبع ذلك توفير برامج تدريبية متخصصة للعاملين في كل المستويات، من الإدارة إلى الكوادر الطبية والتمريضية والفنية والإدارية، لتزويدهم بالمعارف والمهارات اللازمة لتطبيق معايير الجودة وأدوات التحسين. تُشجع هذه المرحلة أيضًا على مشاركة العاملين وتمكينهم في تحديد المشكلات وتقديم الحلول، وتوثيق الإجراءات التشغيلية القياسية (SOPs) وتحديثها لضمان الاتساق والفعالية في تقديم الخدمات، مع التركيز على تصميم عمليات تتمحور حول المريض
3- مرحلة القياس، المراقبة، والتحسين المستمر:
هذه المرحلة هي جوهر الحفاظ على زخم ثقافة الجودة. يتم فيها تحديد مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) قابلة للقياس، تعكس جودة الخدمات السريرية، كفاءة العمليات، رضا المرضى والعاملين، ومدى ترشيد استخدام الموارد. يُتبع ذلك بـجمع وتحليل منتظم للبيانات المتعلقة بهذه المؤشرات لتحديد مجالات التحسين، ومراقبة التقدم. تُطبق دورات التحسين المستمر (مثل PDCA) بشكل منهجي لمعالجة المشكلات، تجربة الحلول، وتقييم النتائج، مع التعلم من الأخطاء والنجاحات. تهدف هذه المرحلة إلى ترسيخ منهجية العمل القائمة على البيانات والتحسين الدوري لضمان جودة مستمرة ومُحسنة
4- مرحلة الترسخ والتثبيت:
تُمثل هذه المرحلة الهدف النهائي، حيث تُصبح ثقافة الجودة جزءاً لا يتجزأ من هوية المشفى وطريقة عمله اليومية. تُدمج قيم الجودة في رؤية ورسالة المشفى وتُصبح أساساً لجميع القرارات والممارسات. يتم تعزيز السلوكيات الإيجابية المتعلقة بالجودة من خلال آليات التقدير والمكافأة، وتُنشأ قنوات فعالة لـتبادل المعرفة وأفضل الممارسات بين الأقسام. الهدف هو أن تُصبح الجودة “الطريقة التي نفعل بها الأشياء هنا”، مما يضمن استدامة التحسين، ويزيد من ثقة الجمهور في خدمات المشفى، ويُعزز من دورها كركيزة أساسية للرعاية الصحية.
د. سمر قبلان
