من إشكاليات الشعر العربي الحديث (الخلل العروضي)
من إشكاليات الشعر العربي الحديث(الخلل العروضي)
أ.د. عبدالله خضر
عضو الهيئة التدريسية في الاكاديمية العربية الدولية
انما الالفاظ تكتسب موسيقاها من خلال السياق الذي ينسجه الشاعر، وعلاقتها الخفية بما حولها من الالفاظ الاخرى وما تبثه من معانٍ توحي بها الالفاظ دون ان تشخصها تماماً، وقد اهتم الشعراء بالشكل الموسيقي من حيث هو قواعد تتبع، وانظمة موسيقية لابد من دراستها وحدها وفي سياق معزول، إذ أن للشعر الحر عروضاً خاصاً به، فلابد للشاعر الحديث أن يستعين بالعروض ويضبطه ويستخدمه بصورة صحيحة في الشعر من خلال التخميس والتشطير ونظام الدوبيت والبند والاجازة وغيرها من القوالب الايقاعية التي عفى عليها الزمن، فللشاعر استراتيجية المراحل التي تقتضي إلا ينتقل الشاعر من اطار العروض الشطري إلى اطار العروض الحر الا بعد ان يكون قد استوفى مهارات إجادة الأول حتى يتفرغ للثاني، ومن هنا جاء علم العروض كجزء أساسي لتقنين الشعر الحر، وتأسيس الاوزان على التفعيلة المتنوعة العدد، وعلى البحور الصافية والبحور الممزوجة.
وقد وجد مجموعة من المشكلات العروضية عند شعراء الشعر الحر، واهمها:
أ-الخلط بين التشكيلات
ان الشعر الحر، يتكون من شطر واحد، وليس فيه غير الضرب، وان الشطر الاول في القصيدة الحرة يعين للشاعر خاتمة كل شطر تالٍ يرد فيها، سواء اكان البحر صافياً ام ممزوجاً، ومعنى هذا ان وحدة الضرب قانون جار في القصيدة العربية مهما كان اسلوبها ولهذا يفضل وضع نظام محدد لقصيدة التفعيلة، بعدما خرجت القصيدة الحرة على النظم النمطية للقصيدة التقليدية.
وتجدر الاشارة بأن اول من تجاوز هذا النظام، هي الشاعرة نازك الملائكة، إذ أنها في كثير من قصائدها من مثل (مر القطار) التي بنتها على بحر (الكامل/متفاعلن متفاعلن متفاعلن )، فنراها قد جمعت بين التفعيلات (متفاعلن ومتفاعلان ومتفاعلاتن)، وكذلك في قصيدة (الخيط المشدود في شجرة السرو) التي بنتها الشاعرة على بحر (الرمل/ فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن )، ولكنها جمعت بين (فاعلان وفاعلن وفاعلاتن وفعلن).
وقد سمحت نازك الملائكة أن يجمع الشاعر بين التشكيلات بصورة محدودة وكالآتي:
1- جواز اجتماع التفعيلة مع ممدودها في ضرب القصيدة في ثلاث مواضع وهي، اجتماع فعل مع فعول، وفعلن مع مفعول، ومفاعلين مع مفاعيلان.
2- جواز اجتماع كل ما يصح وقوعه في العروض والضرب في البيت العمودي القديم، وبه يجوز ان تجتمع في اضرب القصيدة الحرة (فاعلن وفاعلاتن وفعل وفعولن ومستفعلن ومفعولن).
وقد طبقت (نازك) هذه التجاوزات في شعرها، وهذا مانراه في قصيدتها (دكان القرائين الصغيرة)، اذ نجد اضرب (فاعلاتن وفاعلان) وهما يجتمعان في قصيدة واحدة، ولا تكون احداهما ضرباً والاخرى عروضاً في بيت واحد.
والتتنوع في الأوزان يكون تبعاً للمقاطع الشعرية التي تؤلف بمجموعها القصيدة كاملة([1]) فينتقل الشاعر بينهما على التوالي أو التناوب وفق ما تقتضيه الرؤية الخاصة، وتعد قصيدة “عبد السلام” لسعدي يوسف التي اشتملت على وزني الكامل والسريع أول قصيدة تحمل هذه الظاهرة في العراق من الشعراء المعاصرين وذلك على افتراض صدق التاريخ المثبت في نهاية القصيدة (14/12/957) مما يتناقص ورأي محسن اطيمش من أن قصيدة السياب “رؤيا” التي كتبا عام 1959 لها قصب السبق. وفي ذلك يقول “ولم يحاول الشعراء الآخرين تجريبها إلا بعد ذلك التاريخ كما في شعر شاذل طاقة والبياتي”([2]).
ولقد بلغت نسبة شيوع هذا النمط 6.95٪ بحيث استفاد من المزج بين أوزان تتسم بالتقارب الصوتي فيما بينها. وهو ما يمكن أن نطلق عليه التنويع البسيط كما في الكامل والسريع، فالوحدة الأساسية في الأول (متفاعلن/ب ب-ب-) تشترك مع الثاني (مستفعلن/–ب-) في صورتها الثانوية (متفاعلن/–ب-) وربما يكون ذلك من مسوغات ظهور هذه الصورة عند سعدي يوسف مبكراً.
ويتجسد التميز الأسلوبي بتوظيف الشاعر للنمط الثاني من التنويع، وهو الذي نطلق عليه (التنويع المعقد) لأنه يتم بين الأوزان ذات التباعد الصوتي،
كما في الرمل والمتقارب أو الرمل والسريع أو المتدارك والوافر والكامل.
ويظهر التنويع في أوجع عندما يوظف الأوزان المتناقصة فيجمع في القصيدة الواحدة بين
الأوزان ذات التباعد الصوتي والتقارب الصوتي من جهة، وبين الأوزان أحادية التفعيلة وثنائية التفعيلة من جهة أخرى، كما في قصيدة “الرماة” التي استخدم فيها خمسة أوزان وهي على التوالي (الوافر، الخفيف، الكامل، المتدارك، المتقارب).
وتتنوع موسيقى القصائد وإيقاعاتها تبعاً لتنويع الحالات والمواقف، فهي في معظمها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتقلبات الحالة النفسية والانفعال الناتج عن الموضوع، فالانتقال من وزن إلى آخر عبر المقاطع الشعرية هو مؤشر إيقاعي إلى الانتقال من مناخ وجداني إلى آخر، أو من موقف إلى آخر في الإطار العام لبنية القصيدة. فمن ذلك قصيدة “ثماني مقاطع” لسعدي يوسف، إذ يقول([3]):
أمس في حان على الشاطئ مهجور ثملنا
وتحدثنا، وغنينا طويلا
غير أن حينما فارقنا الحان بكينا
كان رمل الشاطئ المهجور صلبناً علينا
واضح من الأسطر الشعرية بأن الشاعر وظف نسق الرمل (فاعلاتن) الذي يلائم في هذا السياق الحاكية والوصف والقصة، وفي مقطع لاحق يجد الشاعر نفسه منساقاً بسرعة وخفة لمشهد من الطبيعية يقول فيه:
أمر بالنهر، وفي مائه
تذوب أو تنفصل القطرة
المنتهي من بعض أسمائه
والمبدأ الثلجي والثورة
إن استخدام وزن السريع في هذا المقطع يفيض سرعة وخفة تتناسب وتتابع الدفقات الشعورية التي تصورها حركة المرور (زمنياً) بجانب النهر وتناظرها مع السرعة (الزمنية) التي تتطلبها حركة ذوبان القطرة في الماء. ذلك أن الانتقال من وزن إلى آخر يتفق مع البنية الدرامية للقصيدة التي تتنامى من موقف إلى آخر. ومن جهة أخرى فإن هذا التنويع يوسع من حرية الشاعر الذي يرمي اى التخفف من عبء العروض لصالح التعبير الشعري، كما وتظهر الحاجة إلى التنويع تبعاً لتعدد أصوات وهذا مطلب منطقي يفرضه الإيقاع الداخلي لكل صوت من أصوات بناء القصيدة ([4]).
انطلاقا مما سبق يمكن القول بأن التنويع أو الخلط بين الأوزان يحدث قلقا ايقاعيا، وهو ضمن المشكلات العروضية في الشعر الحر التي كثيرا ما تتكرر، فطالما يسعى الشاعر العربي حثيثاً إلى التجديد في الشعر، ليسمو به إلى آفاق واسعة، فكانت مظاهر التجديد على مستوى اللغة والتصوير، وجاءت على مستوى المعاني، ووردت على مستوى الأوزان، والإيقاع عامةً، ولعل التجديد الذي ينشده الشاعر العربي في إيقاع القصيدة وردَ في كثير من نماذجه متزناً واعياً، وجاء في بعض شواهده الأخرى مضطرباً يحتاج إلى مزيد الوعي، دفع به التقليد إلى الوقوع في مزالق إيقاعية ربما لا يتنبّه لها إلا القارئ الذي يملك أذناً موسيقية([5]).
وإذا تأملنا نصوص الشعر الحر(التفعيلية) نرى أن بعض الشعراء يكتبها على (فاعلن) تفعيلة البحر المتدارك، وقد أكثر منها رواد الشعر الحر، حتى أن بعضهم يتعمد إنشاء قصيدته على هذه التفعيلة؛ فجاءت قصائدهم مشوهةً إيقاعياً؛ لأنهم دون وعي ينتقلون من (فاعلن) التي تسير سيراً رتيباً هادئاً إلى (فعولن) تفعيلة المتقارب التي تقفز قفزاً رشيقاً، وهي أسهل موسيقيا من فاعلن، وهذا الاشكال ربما وقع فيه شعراء كبار، من قبيل أمل دنقل، الذي يقول في قصيدة “مراثي اليمامة([6])“:
صار ميراثنا في يد الغرباء
وصارت سيوف العدو: سقوف منازلنا
…
ودراهمنا فوقها صورة …المغتصبْ
أيادي الصبايا الحنائنْ تضم على صدره نصف ثوبٍ .
في السطر(أيادي الصبايا الحنائنْ تضم على صدره نصف ثوبٍ»، فضلاً عن اضطراره إلى تسكين نون الحنائن!) قد تحول أمل دنقل من (فاعلن) إلى (فعولن) دون أن يشعر بذلك.
ومن قلق الايقاع قول درويش:
افترقنا على درَج البيت. كانوا يقولون:
في صرختي حذرٌ لا يلائم طيش النباتات،
في صرختي مطر؛ هل أسأتُ إلى إخوتي
عندما قلت: إني رأيت ملائكة يلعبون مع الذئب
في باحة الدار؟ لا أتذكّر أسماءهم. ولا أتذكر أيضاً طريقتهم في الكلام.. وفي خفة الطيرانْ ([7])
نلحظ بأن الشاعر انتقل -دون وعي منه- من (فاعلن) إلى (فعولن) وذلك في قوله: (ولا أتذكر أيضاً طريقتهم في الكلام..).
ونجد عليّاً الدميني يقع في مثل هذه الاختلالات، ومن خلال تأملي لديوانيه: بياض الأزمنة، ومثلما نفتح الباب؛ وجدتُ أن أكثر نصوصه التفعيلية على (فاعلن)، ويندر أن ينظم على غيرها. يقول الدميني:
زمنٌ في حقائب مترعة بالغبارِ
وأنثى المدائن في خدرها تستريب النهارَ
وأرجوحة العاشقين تميل هنا وتقوم هناك، فلا الماء من جمرها يستقى،
ولا الصوت من صمتها يستعارْ
أفق من أصابع تركية البُنّ، قاماتها من تتارْ([8])
في قوله (ولا الصوت من صمتها يستعارْ)، تحول الشاعر إلى (فعولن)، ثم عاد إلى (فاعلن).
ويقول جاسم الصحيّح في قصيدته “رائق مثل أرجيلة في المساء([9])“:
لغريب يدس مدينته في الرسائل
لكنه يشتكي من خيانة بعض الظروف..
وللوقت يلبس قمصانه البيض
ثم يغادر كالطفل من بيته
كي يلاعبنا في شوارع أوهامنا الواسعهْ
هنا في المكان الذي يلتقي اليأس فيه بأصحابه
وفي السطر الأخير ظهر جلياً انتقال الصحيّح من فاعلن إلى فعولن!
وفي تجربة عبدالله الوشمي نقرأ قوله:
وطني..
عندما بدؤوا يعزفون على الحب أوتارهم
كنت وحدي أغني على معزفك
ووحدي أنا كنت مَن ذبح الغول حين بدا رابضاً
فوق سور المدينة([10])
في السطر (ووحدي أنا كنت مَن ذبح الغول حين بدا رابضاً) انتقل الشاعر من (فاعلن) الى (فعولن) ومن ثم عاد الى (فاعلن).
ويقول إبراهيم زولي([11]):
كما يحتفي الخبز بالملح
المدينة نائمة بعد منتصف الليل
منذورة للحنين الفصيحْ
لست وحدك
في هذه الساعة الآثمة
إبتدأ الشاعر بـ(فعولن) ثم تحول إلى (فاعلن)، كما أن في القصيدة مواضع لا بد من الإيماء إليها، فهو يقول في مقطع القصيدة الرابع:
مطرٌ يتخفى
سوف يأتي
صباح جديد غدا
وكان الأجدر للشاعر أن يختار(يختفي) وليس (يتخفى) وذلك ليستقيم الوزن الشعري.
هذه شواهد لشعراء بارزين لهم حضورهم، وعند غيرهم من الشعراء شواهد كثيرة تدل على أن ركوب هذه التفعيلة ينطوي على قدر من الصعوبة، يستوي في ذلك أن يكون النظم عليها تلقائياً، أو يجيء متعمَّداً، وتدل أيضاً على أن الخلل في الإيقاع يغضّ من مستوى القصيدة الجمالي؛ لأن الإيقاع من أهم ركائز الشعر([12]).
ومن ذلك قصيدة علي الجلاوي الشاعر البحريني «اعتقال مدينة»؛ إذ يقول([13]):
حاصروه
رأيت الخنادق ترصده
والممرات تسحب خيط خطاه
العصافير قد سقطت مذبحهْ
وكان هناك يغطي مواويله
ففي السطر الأخير كان التحوّل من (فاعلن) إلى (فعولن) مربكاً لإيقاع القصيدة.
وكذلك أسماء الزهراني في قصيدتها «مسافة من شجن» تقول([14]):
لست أدري!
لماذا إذا انفلق الحزن عن دمعةٍ فجّةٍ
تطل ابتسامته من ثنايا الزحام!
تتكاثف حول ابتسامته غيمةٌ
قبل أن يمطر الشجن العذب
حتى تسيل القلوب
تفيض بأسرارها
وفي الطرقات القديمة …
يبدو أن الشاعرة تحولت دون وعي من (فاعلن) إلى (فعولن) في السطر: «تطل ابتسامته من ثنايا الزحام!»، ثم عادت بعده إلى فاعلن، وبعد ذلك تحولت إلى فعولن عند السطر: «وفي الطرقات القديمة»، وهذا التحول في مقطع قصير كهذا يدل على أن هذه التفعيلة مركب صعب.
والشواهد في هذا كثيرة لو أردت الإكثار؛ ولذلك ينبغي للشاعر أن يتعامل مع أوزان الشعر كلها بدقّة، ولاسيما مع هذه التفعيلة؛ لأننا رأينا أن شعراءَ كباراً كأمل دنقل ومحمود درويش والصحيّح والوشمي -مثلاً- يقعون فيها، وقد يتعمد شعراء الشباب النظم عليها لأنها –كما يبدو لي- وردت لدى شعراء الحداثة أكثر من سواهم، فهم يحاولون النظم عليها تقليداً، ولعل هذا التعمّد هو ما أوقعهم في هذا الخلل الإيقاعي([15]).
([1]) محسن اطميش، مرجع سابق، ص 285.
([2]) محمد اطميش، مرجع سابق، ص 286.
([3]) الاعمال الشعرية الكاملة: 1/288
([4]) ينظر: شعر سعدي يوسف دراسة تحليلية، د. امتنان عثمان الصمادي، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط1، 2001م: ص268.
([5]) ينظر: اليوسف، قلق الايقاع في شعر التفعيلة(www.al-jazirah.com).
([6])الأعمال الشعرية، ص414-415.
([7])لماذا تركت الحصان وحيداً، ص20-21.
([9])ما وراء حنجرة المغني، ص147-148.
([10])البحر والمرأة العاصفة، ص7.
([11])الثقافية، العدد: 476، 18/1/1437ه.
([12])ينظر: سعود بن سليمان اليوسف ، قلق الايقاع في شعر التفعيلة(www.al-jazirah.com).
([15])ينظر: سعود بن سليمان اليوسف ، قلق الايقاع في شعر التفعيلة(www.al-jazirah.com).
Tag:الخلل العروضي