مفهوم النص
مفهوم النص
أ.د. عبدالله خضر
عضو الهيئة التدريسية في الاكاديمية العربية الدولية
عندما نبحث عن مفهوم النص فنجد أنفسنا أمام كم هائل من التعريفات الخاصة به، وذلك لتعدد معايير هذا التعريف ومداخله ومنطلقاته، وكل تعريف منها يعكس وجهة النظر الخاصة بمعرفة وبالمرجعيات الفكرية والتراكمات المعرفية التي ينطلق منها ولذلك سنقتصر على بعض التعريفات التي نواها تخدم الموضوع.
ولعل من المناسب أن نبدأ في تحديدنا لمفهوم “النص” من المعنى اللغوي، حيث تتعدد المعاني اللغوية في مادة “نصص” عند ابن منظور في لسان العرب، يقول: “النصُّ: رَفْعُكَ الشيءَ، نَصَّ الحديثَ يَنُصُّه نصاً: رفعه، وكل ما أُظْهِرَ فقد نُصَّ… ونَصَّ الرجلَ نصاً: إذا سأله عن شيء حتى يستقصي كل ما عنده”([1]).
وبذلك فإن النص في اللغة العربية يدور على عدة معانٍ هي : ” الرفع ، والإظهار ، وجعل بعض الشيء فوق بعضه ، وبلوغ الشيء أقصاه ومنتهاه ،والتحريك ،والتعيين على شيء ما ، والتوقيف”([2]).
ويجعل الزمخشري المعنى الحقيقي أو المعنى الرئيس في ( النص ) هو الرفع والانتصاب وما سوى هذا المعنى من المجار([3])، ومن العجيب أنه ليس هناك اختلاف يذكر في معنى ( نص ) بين المعاجم العربية القديمة ، فما نجده عند الزمخشري المتوفى 538هـ نجده عند ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ في شرحه لكتاب الزمخشري الذي عنوانه : غراس الأساس([4])، نجده كذلك عند الزبيدي المتوفى 1205هـ في كتابه تاج العروس لولا أنه يذكر عبارة شائعة في عصره وما قبله من العصور ، وهي عبارة (نصت الفقهاء ) وقد فسرها بـ(الدليل) مستندا على المعنى الأصولي للفظة النص، ويبدو أن النص بمعنى القول العادي غير المرتبط بالكتاب والسنة قد تطور عن هذه العبارة .([5])
أما المعنى الشائع بين متكلمي اللغة العربية المعاصرة فهو : ” صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلف “([6]) ، أو القائل ، هكذا يذهب مؤلفو المعجم الوسيط ويجعلون هذا المعنى الأخير مولّداً ، ولكنهم يكتفون بصيغة كلام المؤلف دون القائل وكأنهم يلمّحون إلى الصفة الكتابية للنص، وهذا غير صحيح ، فالنص كماا يفهمه العرب الآن هو صيغة الكلام المنقولة حرفياً سواء أكانت نطقاً أم كتابةً ، هذا ولابد من الإشارة إلى أن أقرب المصطلحات إلى (النص) عند القدماء هو مصطلح ( المتن ) المقابل للإسناد عند علماء مصطلح الحديث،، وقد وجدت هانز فير أشار إلى هذا الأمر في معجمه ([7]).
ويحاول بعض الباحثين التقريب بين أصل كلمة ( النص ) في اللغة العربية وفي بعض اللغات الأخرى التي يعود أصل كلمة النص فيها إلى ( النسج )([8])، إذ تتم المقارنة بين ( نص ) العربية ، وبين Texteفي الفرنسية ، و Texto في الأسبانية ، و Textفي الأنجليزية ،و Tekta في الروسية والأصل اللاتيني للكلمة في تلك اللغات وهو Textus.) ، غير عابئين بالفروق المختلفة بين اللغة العربية وتلك اللغات ، وغير عابئين أيضاً باختلاف اللغات في طريقة صوغ معانيها الاصطلاحية والعرفية ، ومن المعلوم أن النسج والوشي كانا شائعين في العربية الفصحى في وصف الشعر ، ثم شاعا بعد ذلك في وصف النثر أيضاً ، ويُعنى به في الغالب إحكام الصنعة وتميزها ، ثم تسرّبت إلى المصطلح البلاغي العربي ألفاظ من قبيل (التوشيع ) و (التطريز ) وغيرها .
وهناك من الباحثين من يحاول تحميل أصل مفهوم كلمة( نص ) ما لا تحتمل ؛ لربط المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي الحديث فـ(نص الأمر بمعنى شدِّته ) -كما جاء في اللسان- يجعل منه دلالة على معنى الاستقصاء التام ، والاقتصاد اللغوي([9])، الذي يجب أن يتحقق في النص ليكون نصاً ، ولكن هذا بعيد عن معنى شدة الأمر التي لا يمكن أن يُلْمحَ منها معنى الاقتصاد ألبتة.
ومن الممكن الربط بين معنى ( النص ) كما يفهمه العرب الآن من أنه الصيغة الأصلية لكلام منشئه ، والمعنى اللغوي ، بأن النص يُرفَعُ إلى منشئه ؛ مما يفسر العلاقة المتينة بين النص وصاحبه ضمن الإطار التداولي . كما أن النص له بداية ونهاية تُفهَمان من بروزه وظهوره ، ولا يمكن أن يدرس نصٌ ما إلا إذا كانت له بداية ونهاية . أما النسج وعلاقته بالترابط بين كلمات النص ؛ فالترابط أمر معروف في أي كلام ، وفي أية لغة من اللغات ؛ ولكن الأصل اللغوي لكلمة ( نص ) في اللغة العربية ، لا يؤيد ربطه بالنسج كما في اللاتينة.
أما مفهوم النص في اصطلاح القدماء فلم يوله اهتماما يُذكر سوى علماء الأصول ولعل الإمام الشافعي أول من تطرق إلى مفهوم النص في نظريته عن البيان ، حيث ذكر عن النص أنه ” ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه ، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره ” ([10])،وعلى ذلك فالنص ما” لا يحتمل إلا مـعنى واحداً “([11])، أو هو”مـا رُفع في بيانه إلى أبعـد غـايته “([12])، كما أن للنص مفهوماً ” آخر عند الأصوليين إذ يستعملون هذا اللفظ فيما ورد في بحوثهم من اصطلاحات مثل: عبارة النص وإشارة النص ..الخ يفهم منها أنهم يطلقونه على كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة سواء أكان ظاهراً أو نصاً أو مفسراً ، أي إن كل ما ورد عن صاحب الشرع فهو نص “([13]).
ويبدو أن الدلالة كانت المعيار الوحيد الذي احتكم إليه الأصوليون لأول وهلة ، ولكن تلك الدلالة تكون مرتبطة باللفظ المركب سواء أكان منطوقا أم مكتوباً . ويجلّي نصر حامد أبو زيد نظرة الأصوليين إلى ( النص ) جاعلاً (النص ) جزءاً من العلاقة بين المنطوق اللفظي والدلالة ، ثم يقول في ذلك : ” النص هو الواضح وضوحاً بحيث لا يحتمل سوى معنى واحد ، ويقابل النص المجمل الذي يتساوى فيه معنيان يصعب ترجيح أحدهما ، ويكون (الظاهر) أقرب إلى النص من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى القريب … “ ([14]).
أما النص في اصطلاحات المحدثين ، فقد تنوعت تعريفاته بتنوع التخصصات العلمية، وبتنوع الاتجاهات ، والمدارس المختلفة ، ومن أبرز تعريفات النص في العربية المعاصرة محاولة طه عبد الرحمن تعريف النص على أساس منطقي بأنه : ” كل بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها بعـدد مـن العلاقات “([15])
ومن المحاولات الأخرى لتعريفه ، محاولة محمد مفتاح ؛ فقد عرّف النص منطلقاً من منطلقات ثلاثة:
أولها : تجاوز ثنائية الحقيقة والاحتمال ومن خلال ذلك ينبغي تجنب الرؤية التقليدية للنص باعتبار أحادية معناه ، وشفافيته ، وحقيقته وصدقه، فيكون النص كل ما دل على الحقيقة وعلى الاحتمال ، وعلى الممكن
والمنطلق الثاني : تدريج المفهوم حيث النص يطلق على الحقيقة على المكتوب المتحقق في كتابته علاقات متواشجة بين المكونات المعجمية والنحوية والدلالية والتداولية في زمان ومكان معينين ، والمكتوب الذي لا تتحقق فيه تلك العلاقات ليس نصاً ، وُيسمَّى اللانص فإذا كان المكتوب مزيجاً مما تحققت فيه تلك العلاقات مع بياض ،وعلامات سيميائية أخرى كالرسومات والأشكال ، فيُسمَّى ( النصنص ) للمبالغة ؛ لأنه صار نصاً معقداً يقابله مايُسمَّى ( الشبيه بالنص ) وهو الأحلام والثقافة واللوحات التشكيلية والأيقونات المختلفة.
ويعتمد المنطلق الثالث على تدريج المعنى ، وينبغي أن يؤخذ لذلك في الحسبان حجم النص ، ونوعه ، واختلاف درجة دلالة النص باختلاف نوعه ، وباختلاف درجةة دلالة الجمل في النص نفسه ، ويعتمد محمد مفتاح هنا على تقسيمات القدماء في درجة الدلالة من المحكم حتى المتشابه ([16]).
أما التعريفات الغربية للنص ، فهي كثيرة ؛ فمن التعريفات ذات الاتجاه البنيوي أن النص عبارة عن ” بناء لمعنى مـأخوذ من معجم ليس لمفرداته معان خارج البناء الذي يضمها”([17])، ويعرِّفُ الباحث السيمولوجي الروسي يوري لوتمان ( النص ) انطلاقاً من ثلاثة معايير هي : التعبير، حيث يتم التعبير من خلال علامات اللغة الطبيعية . والمعيار الثاني هو التحديد . أما المعيار الثالث فهو الخاصة البنيوية. (صلاح فضل : بلاغة الخطاب وعلم النص ، مرجع سابق ، ص 233-234.) ، ويرصد ميشيل آريفيه مفهوم النص سيميائياً قائلاً : “إذا حاولنا تعريف النص سيميائياً ، فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى التمييز بين خطابين يبدوان متوافقين :
وبالنسبة للسيميائيين البنيويين يبدو-ـ رغم بعض الاختلافات المصطلحية -أن الاتفاق قد تم حول تحديد النص بوصفه مجموعة يؤلفها الخطاب ، الحكاية ، والعلاقات القائمة بين هذين الموضوعين المحددين كطبقات دلالية مستقلة نسبياً وقابلة بدورها إلى أن تتنضد في أصعدة متعددة وفي السيميائية التحليلية ، يحدد النص كعملية لسانية تجاوزية تتشكل في اللغة وتكون غير قابلة للاختزال إلى المقولات المعروفة الخاصة بكلام التبليغ موضوع اللسانيات “([18]).
وهذا التعريف الأخير مأخوذ عن جوليا كريستيفا التي وضّحتهُ توضيحاً أكثر بقولها : “النص جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان بواسطة الربط بين كلامم تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وبين أنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه ، والمتزامنة معه . فالنص إذن إنتاجية ، وهو ما يعني :
أ ـ أن علاقته باللسان الذي يتموقع داخله هي علاقة إعادة توزيع ( صادمة بناءة ) ولذلك فهو قابل للتناول عبر المقولات المنطقية ، لا عبر المقولات اللسانية الخالصة.
ب ـ أنه ترحال للنصوص وتداخل نصي ، ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى “([19]).
أي أن النص يُنظر إليه من حيث إنتاجه كنص يتعالق مع نصوص أخرى ، وهو ليس منتوجاً فحسب ، بل دليلاً منفتحاً متعدد الدلالات ، كما أن بنيته لا يمكنن مقاربتها في إطار نص لساني ذي بنية مسطحة ، بل عن طريق توليد مسجل في البنية اللسانية لا يمكن أن يقبل القراءة إلا عن طريق تكوينات متعددة لا تكتفي بالمكون اللساني([20]).
تلك كانت بعض التعريفات الغربية ذات المنطلقات اللسانية النقدية ذُكرت لاهتمامها بالنص وتحديده.
أما عند الرجوع إلى المنطلقات اللسانية اللسانية وتعريفات النص في ميدان علم اللغة النصي خصوصاً ، فهناك الكثير من التعريفات المختلفة . فعلى سبيل المثال يشير ديفيد كريستال David Crystal إلى أهمية امتداد النص كمتوالية ،وكونه منطوقاً أو مكتوباً، كما يشير إلى أهمية الوظيفة الاتصالية Communicative Function (David Crystal , The Cambridge Encyclopedia of Language,Ibid ,p.116..)ويُعرَّف النص في بعض المراجع بطريقة مبسطة بوصفه ” تتابعاً منظماً أفقياً من الإشارات اللغوية التي تُفهم على أنها توجيهات من مرسل معين إلى مخاطب معين “([21]).
أما جانوس .س . بيتوفي Janos S .Petofi فيخرج النص عن النظام اللغوي قاصراً إياه على مجال الاستخدام اللغوي الفعلي ؛ فالنص عنده ” هو موضوع رمزي ـ علائقي تغلب عليه السمة الكلامية ذو شكل مكتوب يدوياً أو مطبوع في شكل أو هيئة مادية … وعلى الرغم من أن الأشكال المادية المكتوبة يدويا أو المطبوعة هي المواضيع الرئيسية في عملية معالجة النص ، إلا أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار الشكل السمعي المحتمل أيضاً . وتحقق النصوص معايير النصية إذا تم احترام التوقعات الآتية : يعبر الموضوع ، في حالة تخاطبية معطاة ، أو مفترضة ، عن شكل متصل (وتام) لحالة من الحالات ويحقق وظيفة تخاطبية معطاة أو مفترضة ؛ وله تركيب كلامي متصل ، وكامل حيث يمكن للاتصال والكمالية في التركيب أن يعتمدا على نموذج الموضوع المعطى “([22]).
و يَتضِحُ من التعريفين السابقين إغفالُ التعريف الأول الناحيةَ الدلاليةَ للنص ، في حين ينطلق التعريف الثاني منها لتمييز النص من سواه .
ويجب أن يُشار في هذا الصدد إلى مسألة إخراج النص من دائرة النظام اللغوي (الصوت- الكلمة- الجملة ) وقصره على الاستخدام ، وهو رأي يذهب إليه كثيرر من أنصار نحو الجملة خصوصاً . والحق أن النص هو حاصل جمع النظام اللغوي والحاصل هو جزء من العملية اللغوية ، ومسألة استخدام النص مسألة مهمة ، ولكنها لا تنفي عنه دمجه بالنظام اللغوي . ومن تعريفات النص في التداولية النصية أنه ” سلسلةٌ لسانية محكية أو مكتوبة وتشكل وحدة تواصلية ، ولا يهم أن يكون المقصود هو متتالية من الجمل ، أو من جملة وحيدة ، أو من جزء من الجملة “([23]).
وهذا التعريف يهتمُّ -كما هو واضحٌ- بمسألة التواصل ، مع إهماله لمعايير نصية أخرى تتعلق بالشكل المادي للنص . أما النص عند هاليدي ورقية حسن ، فهو : ” كلمة تستخدم في علم اللغة للإشارة إلى أي قطعة منطوقة أو مكتوبة مهما طالت أو امتدت … والنص يرتبط بالجملة بالطريقة التي ترتبط بها الجملة بالعبارة … وأفضل نظرة إلى النص أنه وحدة دلالية A Semantic Unit ” “([24]) ولأجل ذلك فقد اهتما بطرائق تماسك تلك الوحدة الدلالية ؛ إذ من خلال ذلك التماسك يمكنن للنص أن يؤدي وظيفته .
ويرى كلاوس برينكر أن تعريفات النص المختلفة قد انطلقت من اتجاهين : الاتجاه الأول يقوم على أساس النظام اللغوي ، وقد اعتمدت معظم التعريفات فيه علىى علم اللغة البنيوي والنحو التحويلي التوليدي إذ يظهر النص كتتابع متماسك من الجمل . ويقوم الاتجاه الآخر على أساس نظرية التواصل ؛ فيُعرَّف النص بوصفه فعلاً لغوياً معقَّداً يحاول المتكلم به أو كاتبه أن ينشئ علاقة تواصلية معينة مع السامع أو القارئ .
ويقترح برينكر مفهوماً مدمجاً للنص ينظر إلى كلا جانبيه اللغوي البنيوي والتواصلي السياقي ، فيعرِّف النص بكونه وحدة لغوية وتواصلية في الوقت نفسه([25]) .
أما فان دايك ، فيريد أن يُستبدَل بالسؤال الساذج (ما النص ؟ ) سؤال آخر هو (كيف نحلل النص ؟) ، ليصل بعد ذلك إلى أن ” النصوص لا تملك فقط بنى قاعديةة على مستويات مختلفة ( أصوات ، كلمات ، بناء الجملة ، المعنى ) ، ولكنها أيضاً تملك بنى أخرى مثل البنى العليا ( الترسيمات) والبنى الأسلوبية ، والبلاغية التي هي في عدد من مستويات النص مسؤولة عن التغيير ، وعن البنينة الإضافية “([26]). وهذا التحديد للنصوص متأثر- كما يبدو- بنظرية فان دايك في أن علم النص علم متداخل الاختصاصات ، وإن كان ينطلق في تحليله للنصوص من منطلقات دلالية وتداولية.
وهناك تعريفات أخرى للنص لم تُذكرْ خشية الإطالة، ومع ذلك فستتم محاولة صياغة تعريف خاص بالنص يتميز بمنحى شمولي للاستعانة به في مقاربة جميع أنواع النص ، فالنص وحدة كلامية مكونة من جملتين فأكثر ، تحقيقاً أو تحقيقاً وتقديراً ، منطوقة أو مكتوبة، لها بداية ونهاية تتحدد بها ، وتتداخل مع منتجها ولغتها في علاقة عضوية ثابتة ، وهي تتجه إلى مخاطب مُعيّنٍ أو مُفترَضٍ ، ويمكن أن تصاحب تلك الوحدة الكلامية بعض الإشارات السيمائية غير اللغوية التي قد تؤثر فيها.
ويأتي هذا التعريف ليسدَّ بعض النقص في التعريفات العربية للنص عند طه عبد الرحمن إذ لا يُدرَى ما المقصود بالجمل السليمة في تعريفه هل هي السليمة تركيباً أم السليمة في المعنى ؟ كما أن تعريف محمد مفتاح قصر النص على المكتوب ، وهذا غير صحيح .
كما يأتي هذا التعريف متوافقاً مع الفهم اللغوي (للنص) في العربية المعاصرة ، ومنسجماً مع الاتجاهات الحديثة في التحليل النصي ، إضافة إلى أنه يعطي كلل لغة نوعاً من الخصوصية في بنيان نصوصها ، فالنص الإنجليزي على سبيل المثال لا يمكن أن يكون كالنص العربي مهما حاولت الترجمة التقريب بينهما ، فلا يمكن المقاربة بين أي نصين مترجمين من لغتين مختلفتين إلا بإضافة حواشٍ وتعليقات إضافية ، لأن النص علاوة على اختصاصه بروابط خاصة في كل لغة ، فإنه يحمل رصيدا ثقافياً مقصوراً على ناطقيه الأصليين ، ثم إن علاقة النص بمنتجه علاقة عضوية تداولية ، ولكل منتج للنص روابطه الخاصة به في نصه ، وطريقته التي يمكن كشفها من خلال نصوصه الأخرى ، فنص فلان من الناس يختلف عن نص آخر . إضافة إلى أنه يمكن إدخال بعض الإشارات غير اللغوية المصاحبة للنص اللغوي في ضوء تأكيد العلاقة بين النص ومنتجه ، إذ لا يخلو نص شفاهي في الغالب من مثل تلك الإشارات ثم إنه لابد من أخذ متلقي النص في الاعتبار ، فالنصوص تتأثر ، بل تختلف باختلاف المخاطبين ؛ فقد يؤدي وجود مخاطبين بصفة ما إلى إيجاد نصوص معينة بسمة ما تناسب أحوال تلقيهم النص([27]) .
وقد يمكن القول إنه حان الوقت لإطلاق مصطلح ( النصم ) ليكون شاملاً لمصطلحات ( الصوتم ، والجملم ) ويمكن تمييز النصم بأنه : متوالية جملية ظاهرة أو مقدرةة تعبر عن معنى دلالي شمولي في سياق تداولي ما . ويحتوي النصم تعريفات جميع أنواع النصوص بما فيها التعريفات السابقة .
وفي محاولة تحديد مفهوم النص يرى منذر عياشي أن الباحثين ينقسمون في تحديدهم لمفهوم النص إلى ثلاثة أقسام:
أولا:- قسم يذهب إلى تعريفه مباشرة من خلال مكوناته ويمثله (تودوروف):
فهو فيرى أن النص يمكن أن يلتقي مع الجملة، مثلما يلتقي مع كتاب بأكمله فهو (النص) يتحدد بواسطة استقلاليته وانغلاقه-على الرغم من أن بعض النصوص ليست منغلقة- ويشكل النص نسقا لا ينبغي مطابقته مع النسق اللسني ويمكن وضعه في علاقته معه وبألفاظ هيلمسليفية، إن النص نظام إيحائي،لأنه ثان إزاء نظام آخر للدلالة([28]).
كما ويرفض تودوروف تعريف النص ويعيب عليه تأثره بالبلاغة، وينتهي إلى القول بعد تحليل طويل:” نفهم الآن أن نظرية النص موضوعة في غير مكانها المناسب في المجال الحالي لنظرية المعرفة، ولكنها تستمد قوة معناها من تموضعها اللامناسب بالنسبة للعلوم التقليدية للأثر الفني، تلك العلوم التي كانت ولا تزال علوما للشكل أو للمضمون.. “([29]) كما توصل تودوروف من جهته إلى الإقرار بأن التعريف الوظيفي للأدب تعريفات لا يمكن حصرها، والوظيفة الأنطولوجية تعدمم أي وظيفة أخرى تتصل بالبناء النصي([30]).
ثانيا:- قسم يذهب إلى تعريفه من خلال ارتباطه مع الإنتاج الأدبي ويمثله (رولان بارت):
أما “رولان بارت “R. Barthes” فقد عد النص نسيجا “ولكن طالما تم اعتبار هذا النسيج على أنه منتج وحجاب جاهز يكمن وراءه، – نوعا ما، – المعنى – الحقيقي مختفيا.. فإننا سنشدد داخل النسيج على الفكرة التوليدية القائلة: إن النص يتكون ويصنع نفسه من خلال تشابك مستمر، ولو أحببنا عمليات استحداث الألفاظ لاستطعنا أن نصف نظرية النص بكونها علم نسيج العنكبوت (هو نسيج العنكبوت وشبكته)”([31])، وإن “رولان بارث” عندما شبه النص بالنسيج الذي ينتج لنا حجابا جاهزا أو لباسا نلبسه ونختفي فيه ويصبح جزءا من شخصيتنا يكون – فيما أرى – قد أصاب كثيرا من الحقيقة لأن النص هو أيضا منتج لعملية التشابك المستمر والانسجام والتماسك التي يقيمها “الناص /الكاتب ” للكلمات والجمل والمعاني التي تعطينا – في النهاية – نصا كما يعطي العنكبوت شبكة من ذاته فالناص يعادل أو يوازي العنكبوت – في هذا التعريف. والشبكة توازي أو تعادل الكلمات والجمل والمعاني التي تؤلف النص.
ثالثا:- ويذهب القسم الثالث في تعريفه مذهباً يربطه بفعل الكتابة ويمثله (بول ريكول).
ويرى بول ريكور ” P.Recourd” ان النص “خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة”([32])، فهو يؤكد على تثبيت النص بواسطة الكتابة أي أن النص هو ما نكتبه، وهي نظرة تلتقي مع وجهة نظر رولان بارط حين أقرّ مصطلح النسيج، بمعنى أنّ النصّ يضع نفسه باستمرار، وهو نسيج كما تنسج العنكبوت نسجها في شبكة متلاحمة منضدة.
انطلاقا مما سبق فإن النص شكل من أشكال الإنجاز اللغوي، يقيمه نظامه الخاص، ولأنه كذلك فإنه يستغني بلغته عن غيره([33]).
ويتابع مصطفى الكيلاني منذر عياشي في تحديده لمفهوم النص، فيقول: “النص: هو الوجود اللغوي في اتجاه أول، يستقل بذاته عن جميع الأبنية بما في ذلك فكر المبدع الذي أنتجه، ويتراءى منفتحاً إلى الداخل، ينتظم في نسيج خاص ليس له أي حضور مخصوص خارج اللغة”([34]).
وإذا كان النص هو القول اللغوي المكتفي بذاته، والمكتمل دلالياً فإن هذا يمكن أن ينطبـق علـى (الكلمة) ويمكن أن ينطبق على (الجملة) أو (التركيب) كما يمكن أن ينطبق على (الكتاب الكامل)، وهذا ما ذهب إليه العالم اللساني (هيلمسليف) عندما استعمل مصطلح “النص” بمعنى واسع؛ إذ أطلقه على أي ملفوظ؛ منفََّذ، قديماً أو حديثاً، مكتوباً أو محكياً، طويلاً أو قصيراً، فكلمة: قِفْ، مثلاً، هي في نظر (هيلمـسليف) نص كامل، كما أنّ جماع المادة اللغوية لرواية بكاملها هي أيضاً نص كامل([35]). فالنص إذاً ليس وحدة تختلف عن الكلمة والجملة اختلافاً كمياً بحيث تعد الكلمة وحدة صغيرة، والجملة وحدة كبيرة، والنص وحدة أكبر منهما. فليس بالطول أو الحجم المعين يتحدد النص، بل إن الفارق هنا نوعي يتمثل في أن النص لا بد أن يتميز بالاكتمال والاستقلال، بصرف النظر عن كمّه. فالنص كما يرى الأزهر الزّناد يمكن أن يحتوي الجملة وما يفوقها وما هو دونها بشرط ظهور المعنى([36]).
([1]) ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الافريقي، لسان العرب ، دار صادر ، بيروت ، الطبعةذ
الثالثة ، 1414هـ /1994م ، المجلد السابع (نصص) ص 97-99، وينظر كذلك : المجلد التاسع ( وقف ) ، ص 360.
([2]) المصدر نفسه والصحيفة نفسها.
([3]) ينظر: جارالله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري : أساس البلاغة ،دار بيروت ، بيروت ،1404هـ / 1984م ، ص 635-636( نصص ).
([4])تحقيق توفيق محمد شاهين ، مكتبة وهبة ، القاهرة ، 1411هـ/ 1990م ، ص 457.
([5]) ينظر: محمد مرتضى الزبيدي : تاج العروس من جواهر القاموس ، المطبعة الخيرية ، جمالية مصر ، 1306هـ ، تصوير دار مكتبة الحياة ، بيروت ، المجلد الرابع ( نصص ) ، ص 440.
([6])إبراهيم مصطفى وآخرون : المعجم الوسيط ، دار الدعوة ، استنبول ، 1980م (نص ) ، ص 926.)
([7])ينظر : هانز فير : معجم اللغة العربية المعاصرة ، وضع ج . ملتون كوان ، مكتبة لبنان ، بيروت ، ومكدونالد وايفانس ليمتد ، لندن ، الطبعة الثالثة ، 1980م: ص 890.
([8])ينظر : الأزهر الزناد : نسيج النص ( بحث في ما يكون به الملفوظ نصاً ) ، مرجع سابق ، ص 12، وينظر أيضاً المقدمة التي كتبها الدكتور محمد الهادي الطرابلسي، ص 6
ـ مصطفى صلاح قطب : دراسة لغوية لصور التماسك النصي في لغتي الجاحظ والزيات ، مرجع سابق ، ص477 .
([9])(عمر أبو خرمة : نحو النص نقد النظرية وبناء أخرى ، عالم الكتب الحديث ، الأردن ، الطبعة الأولى 1425هـ /2004م ، ص 28.)
([10])(محمد بن أدريس الشافعي : الرسالة ، تحقيق أحمد محمد شاكر ، بدون بيانات ، ص 32.)
([11])أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي : كتاب المعونة في الجدل ، تحقيق عبدالمجيد تركي ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، الطبعة الأولى ،1408هـ / 1988م ، ص 128.
([12])أبو الوليد الباجي : كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج ، تحقيق عبدالمجيد تركي ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، الطبعة الثالثة ،2001م ، ص 12.
([13])السيد أحمد عبد الغفار : التصور اللغوي عند الأصوليين ، شركة مكتبات عكاظ ، جدة ، الطبعة الأولى1401هـ/1981م ، ص 146.
([14])نصر حامد أبو زيد : مفهوم النص (دراسة في علوم القران ) ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الطبعة الخامسة ، 2000م ، ص 180.
([15]) طه عبد الرحمن : في أصول الحوار وتجديد علم الكلام ، المركز الثقافي العربي ، بيروت- الدار البيضاء ، الطبعة الثانية ، 2000م ، ص 35.)
([16])ينظر: محمد مفتاح : مساءلة مفهوم النص ، منشورات كلية الآدب والعلوم ، جامعة محمد الخامس ، وجدة ، 1997م, ص ص23-28
([17]) عبدالعزيز حمودة : المرايا المحدبة ، سلسلة عالم المعرفة 232، الكويت ، ذو الحجة 1418هـ/ إبريل – نيسان 1998م ، ص 160 نقلاً عن بيرمان آرت.
([18]) ميشيل آريفيه : السيمائية الأدبية ، ترجمة د. رشيد مالك ضمن كتاب ( السيمائية أصولها وقواعدها ) ، منشورات الاختلاف ،الجزائر ،2002م ، ص 96 والتعريف الثاني منقول عن جوليا كريستيفا .
([19]) جوليا كريستيفا : علم النص ، ترجمة فريد الزاهي ، دار توبقال ، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى ،1991م ، ص 21 .
([20]) ينظر : سعيد يقطين : انفتاح النص الروائي ( النص والسياق ) ، المركز الثقافي العربي ، بيروت- الدار البيضاء ، الطبعة الثانية ، 2001م ، ص ص 20-21.
([21]) زتسييسلاف واورزنياك : مدخل إلى علم النص ( مشكلات بناء النص ) ترجمة د . سعيد حسن بحيري ،مؤسسة المختار ، القاهرة ، الطبعة الأولى 1424هـ / 2003م ، ص 15.
([22]) جانوس .س . بيتوفي : اللغة وسيلة مكتوبة : النص ، ضمن الموسوعة اللغوية ، تحرير ن .ي . كولنج ، ترجمة الدكتور محيي الدين حميدي ، والدكتور عبدالله الحميدان جامعة الملك سعود ، الرياض ،1421هـ ، المجلد الأول ، ص 209.
([23]) جان ماري سشايفر : النص ، ضمن كتاب العلاماتية وعلم النص ، مرجع سابق ، ص 119.
([24])Hallidy M .A.K And Ruqaya Hasan, Cohesion In English,Longman,London,1976,p1-2)
([25]) ينظر : كلاوس برينكر : التحليل اللغوي للنص ( مدخل إلى المفاهيم الأساسية والمناهج ) ، ص ص 22- 29 ).
([26])تون آ . فاندايك : النص بنى ووظائف ، ضمن كتاب العلاماتية وعلم النص ، ص 188-189.
([27])مفهوم النص ( من النص إلى النصم ))، د.جمعان عبدالكريم(www.lissaniat.net).
([28])ينظر:عثماني ميلود ،شعرية تودوروف، ص56.
([29])رولان بارت، نظرية النص، ترجمة: محمد خير البقاعي، مجلة العرب والفكر العالمي، ع/3، 1988، ص. 52
([30])T. Todorov, La notion de la littérature et autres essais, « Points », Editions du Seuil,1987, P. 12
([31])رولان بارث – لذة النص، ترجمة محمد الرفرافي ومحمد خير بقاعي، مجلة العرب والفكر العالمي العدد 10. سنة 1990 – ص 35.
([32])عزالدين المناصرة – نص الوطن وطن النص شهادة في شعرية الأمكنة – مجلة التبيين العدد ( ا) – ص 40.
([33]) ينظر: مقالات في الأسلوبية، منذر عياشي، ص: 127.
([34]) وجود النص – نص الوجود، مصطفى الكيلاني، ص: 55.
([35]) ينظر: النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق، عدنان بن ذريل، اتحاد الكتاب العرب، 2000، ص: 54.