مذكرات طفل -1- دون استئذان
مذكرات طفل -1- دون استئذان
دون استئذان
إنها الحياة, يتفتح وعيك* فيها وتجد نفسك موِجوداً, دون استئذان, تجد نفسك بعمر السنوات الثلاث موجوداً في عالم تتعرف عليه, أَنْتَ, ككائن صغير ضعيف مرتبط بوالديه وبيته وفراشه وطعامه وشرابه ومدرسته, ارتباطاً لا خيار فيه, تبدأ بالتعرف على الأشخاص الأشياء الأماكن الأزمنة الطبيعة التاريخ الجغرافيا والبيئة والحياة الإجتماعية** وكأنك تستعرض شريطاً وثائقياً أنت موضوعه أو فيلماً أنت بطله أو مسرحيةً انت نجمها.
كالإسفنجة لا خيار لك تتشرب وتمتص كل ما حولك من عقائد وعادات وتقاليد وعلاقات وأدبيات وآداب ومفاهيم وطريقة عيش وأسلوب حياة.
إقرأ أيضا البيت سكن وسكينة
صغير في عالم كبير
يبدأ وعيك بالتفتح واستكشاف الأقارب والأصحاب, الوجوه والشخصيات التي تراها لأول مرة, منهم من هو مرتبط بالوالد ومنهم من هو مرتبط بالوالدة ومنهم من هو مرتبط بالجيران والجوار ودكان الحي وصبيته المتفاوتين بالأعمار والأحجام والأشكال والشخصيات وطريقة اللعب والكلام واللباس ومستوى النظافة والترتيب.
المجتمع الأول
حتى الأماكن والأشجار وسواقي المياه والبساتين والحدائق والأبنية والعمارات والمحال, وبيوت الجيران وفي كل بيتٍ قصة وعلى كل شرفة جلسة, صبحية أو عصرونية*** أو سهرة, ومن كل منزل رائحة, فناجين القهوة على الشرفات ورائحة الطبخ والطعام الخاصة بكل بيت, ورجال يحملون الأغراض إلى زوجاتهم, أوقات الغداء والعشاء والفطور المتفاوتة بين كل بيت وبيت, وأصوات المذياع والأغاني والقرآن وأحاديث البيوت التي تصدح من النوافذ والشرفات*4, لكلٍ نبرته وصيحته وطنته ورنته وقصته اليومية.
إلى المدرسة سِرّْ
يتفتح وعيك في المدرسة على زملائك الذين لم تختارهم من طلاب الحضانة والروضات والمعلمات وسائق الباص وعمال المدرسة, يكون هذا عالمك الأول الذي تخرج إليه مرغماً من البيت مبتعداً عن مساحة الأمان والإطمئنان والإكتفاء.
إلى عالم المدرسة سِرّْ, إلى حيث اختلاف الأجو اء والمكان والطباع والشخصيات والأعمال والأدوار نومط الحياة, إلى حيث التعليمات والأوامر والإنضباط, إلى الشعور بالغصة والرغبة بالبكاء عند كل صباح, شعور لا يُنسى, ومرارته تلازمك مدى الحياة. هذا المكان المستجد في حياتك ووعيك وإدراكك كفيل بإشعارك بالغربة, الغربة الأولى, بالإبتعاد عن نبع الحنان ومظلة الأمان وحضن الأمن والإطمئنان.
وللحديث تتمة
* الوعي كلمة تعبر عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجي عن طريق منافذ الوعي التي تتمثل عادة بحواس الإنسان الخمس. كما يمثل الوعي عند العديد من علماء علم النفس الحالة العقلية التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات.
*لا يمكن أن يعيش الإنسان السوّي وحده من دون رفقةٍ وأنيس؛ فالحياة الاجتماعيّة هي جانب من جوانِب حياة أي إنسان لا يمكن تجاهلها ولا تجاوزها والأسرة هي نواة المجتمع وأساسه، وتستمر الروابط الموجودة بين أفراد الأسرة مدى الحياة، فتعمل الأسرة على تكوين شخصية الفرد منذ نعومة أظافره وهي أول ما يؤثر في تربية الشخص.
***تعبير يتسخدمه أهل بلاد الشام للتعبير عن الفترة الصباحية ( صبحية ), وفترة بعد العصر ( عصرونية ) ويرتبط اسم الصبحية بشرب القهوة ولقاءات الصباح أما العصرونية فترتبط بوجبة خفيفة يتناولها الناس بين الغداء والعشاء وتكون عادة خفيفة ومسلية وشعبية.
4* الشُّرفات ليست مجرد تفصيل معماري، إنها عيون البيوت، والتعبير الصلب عن الألفة.
شيَّد الإنسان البيت ليحميه من الوحوش وقسوة الطبيعة. وعندما اطمأن، أضاف الشُّرْفَة إلى الباب والنافذة، لكي يستمتع بكونه جزءاً من مجتمع.. لكي يكون رائياً ومرئياً عندما يشاء.
المصادر