ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث
ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث
أ.د. عبدالله خضر
عضو الهيئة التدريسية في الأكاديمية العربية الدولية
لاشك بأن الشعر العربي الحديث، انتقل-في ظل الحداثة الشعرية المعاصرة من مستوى الغموض، الذي لا نتردد في عده مظهرا فنيا في كثير من حالاته، إلى مستوى الإبهام الذي تجسد، في كثير من حالاته، إشكالية عند بعض الدارسين والباحثين، ومن هنا فالنتيجة الرئيسية لهذه الدراسة هي أن الإبهام في شعر الحداثة العربية المعاصرة شيء قار فيه، محايث له بسبب عوامل ثلاثة: العامل الثقافي والمعرفي .. عامل الثقافة والمذاهب الأدبية الغربية… ثم هناك العامل الثالث المتمثل فيما أصاب الشعر العربي من تحولات في بنيته ومفهومه([1])
كما أن ظاهرة الغموض في الشعر الحديث مرتبطة بظاهرة أخرى، تعد من أهم السمات التي تميز هذا الشعر، ونعني بها ظاهرة (التعبير بالصور) فقد بات النقاد والشعراء مما يعتقدون أن الحالات النفسية المقعدة والتجارب العاطفية والفكرية المركبة، لا يمكن التعبير عنها تعبيراً فنياً بغير الصور النامية، لقد طرحت الحاجة إلى التعبير بالصور في أكثر من مناسبة أو دراسة لكن الذي أشاع هذا المصطلح وأذاعه على نطاق واسع: مقال عن الشعر المصري كتبه الناقد محمود أمين العالم ونشره في مجلة الآداب عام 1955 في عدد خاص بالشعر، تحمس –في ذلك المقال- للتعبير بالصور تعبيراً بنائياً، فلفت أنظار الشعراء والنقاد وحديثه، لكن دفع هذا المبدأ إلى الحدة القصوى هو الشيء الجديد، والذي يتصل ببحثنا هذا، هو نوع الصور التي شاعت في الشعر الحديث، والواقع أن ما يميزها هو الغموض، فليست العلاقة بين أطراف الصورة بالأمر الواضح، كما في الشعر العربي القديم، إن صور الشعر الحديث، تغذيها العتمة في رحمها المظلم العميق، بعيداً عن خيوط الشمس الذهبية الناعمة، وهنا، لا بد من جلاء حقيقة أغفلها النقاد وأهملوها أو نظروا إليها نظرة أحادية الجانب، وهي أن الصور الفنية (تشبيهات-استعارات، رموز، مقارنات، وكل أشكال المجاز) تختلف دلالتها عند الناقد، عن دلالتها بآخرها، ويحدد دورها ووظيفتها في البناء الكلي للقصيدة([2]).
أما الشاعر فهي عنده شيء آخر، حين ينظم قصيدة فهو لا يعي أنه يخلق استعارة، أو يبتكر صورة، أو يجدد تشبيهاً، فإذا أدرك هذه الأمور فيما بعد فإنه يدركها، بوصفه ناقداً يتذوق عمله الأدبي، أعني بذلك أن الصور الفنية بشكل خاص تخرج إلى عالم الوعي والضوء على يدي الناقد، وتغلغل في ظلمة اللاوعي عند الشاعر، والعالمان مختلفان، فإذا ربطنا هذه الحقيقة بأهمية الصور في الشعر الحديث بقي علينا أن ندرك أن الشعر الأوربي الذي تأثرنا به يتبع كله من مصدر شعري عظيم، وعبقرية نادرة هي (عبقرية بودلير) الذي تفرع عنه جدولان مبدعان: رامبو، وملارميه، وعم تأثير الثلاثة في أوربا كلها، ثم تأثرنا نحن بالشعر الأوربي الجديد([3])، إذ أن السمة الكبرى والأساسية لهذا الشعر هي (الهلوسة) كما يقول الناقد الفرنسي الكبير (البيريس) في كتابه الهام (الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين) : “فالهلوسة قد فرضت نفسها مع رامبو على أنها مادة لممارسة الشعرية بالذات، تماماً، كما أن الصدمات والحركات هي مادة الميكانيك. يقول: رامبو: (لقد اعتدت على الهلوسة البسيطة، وكنت أرى بوضوح كبير مسجداً مكان مصنع، مدرسة طبول يتولى شؤونها ملائكة، عربات على دروب السماء، صالونا في قاع بحيرة.. وقد انتهى بي الأمر إلى اعتبار فوضى فكري مقدسة) ويريد مالارميه هو الآخر وبصورة أكثر منهجية، وعن طريق التأمل أكثر مما عن طريق الإشراق والسطوع أن يهدم المظاهر بتحويله العالم إلى عالم هلوسة، يكشفه عن (هويات سرية بوساطة اصطفاف ثنائي يتآكل الأشياء باسم نقاء أبدي)..”([4]).
هذا المبدأ الهام، مبدأ الهلوسة الذي أقره رامبو، ومالارميه، هو مصدر للتهويم فوق الواقع، وطريق للعودة إلى الحياة البدائية، والطفولة الإنسانية، حيث تكتسب الأشياء خصائص فراسية، وتتحد الذات الشاعرة بالكون، والطبيعة، والذوات الأخرى، وحتى بالمعاني المجردة أيضاً، إن البدائي والطفل لا ينظران إلى الأشياء الأخرى نظرة موضوعية، فالمقعد هو الذي (يدعو) الطفل إلى الجلوس، والطاولة (تقف) في طريقه ليتعثر، والقمر (يختبئ) عنه لأنه أسخط أمه، إن مثل هذه النظرة تفسر كلمة إليوت المأثورة (الشاعر أشد الناس بدائية وأشدهم تمدناً) وما تقدم هو جانبه البدائي أما تمدنه فهو الذي يدفعه إلى مواكبة عصره والتقدم عليه رغم فوضاه الهائلة، وهكذا تكون الهلوسة والتهويم خلفية فعالة لتطور الشعر الحديث، وعنها تتفرع أشكال الغموض في الشعر الحديث([5]).
وتجدر الاشارة إن نازك الملائكة رفضت الغموض بدعوى أنه كان مبرراً في العقود الأولى من هذا القرن في الحكومات المستبدة التي خنقت الهمسة الوطنية فاضطر الشعراء إلى الضبابية حتّى يتأوهوا بها، أمَّا بعد أن أطلت حكومات ثورية فلم يعد هذا الغموض مبرراً، ولاسيما بعد نكسة حزيران إذ بات من واجب الشعر أن يواجه الجمهور ويصرخ صرخة الجهاد، لذلك لا بد أن يكون واضحاً وأن تكون رؤيته صافية حتّى لا يتوه الجمهور. فنحن اليوم “نحتاج إلى الكلمة الواضحة التي لا تتعارض صراحتها واستقامتها مع ظلال الشعر وألوانه وموسيقاه والرمز فيه، ولكنها تتعارض مع التيه والظلمة والصلبان التي تصلب عليها الظلال” ([6]).
وهذا يعني أن طبيعة الشعر الأصلية عندها هي الوضوح، ولكن وضوحه يختلف عن وضوح النثر الذي يعتمد المباشرة والتقرير إذ يقوم على الإيحاء والرمز والألوان والظلال. ولكنها لا تعد الإيحاء والرمز في الشعر غموضاً بل طريقة في التعبير خاصة به، أمَّا الغموض عندها فيعني التيه والظلمة على أن تحديد طبيعة الوضوح في الشعر بالرمز والإيحاء هو خلط بين الوضوح والغموض، فالإيحاء والرمز لا يعنيان الوضوح وليس هناك وضوح غامض وآخر مباشر. إن نازك ها هنا تخلط بين مصطلحي الوضوح والغموض إذ كانت ترى أنه من طبيعة الشعر حيث تقول: “إن الشعر لا بد لـه من مسحة من الغموض تجعل المعاني مثيرة للتعطش في نفس القارئ، فيحس وهو يقرأ أنه يلمس المعاني ولا يلمسها في الوقت نفسه، فالأفكار تزوغ ولا تثبت، وفي القصيدة إيماء إلى المعنى يبقى الذهن متطلعا يريد ولا يلمس ما يرد وينال شيئا وتفوته أشياء”([7])
كما ولا يجب أن يتحول الغموض إلى غاية يقصدها الشاعر كما هو الأمر لدى بعض الشعراء الشبان الذين بالغوا في إضفاء الغموض على شعرهم([8]). ومن هنا فهي تفرق بين الغموض من حيث أنه طبيعة للشعر وبين الغموض من حيث أنه لعبة لغوية أو هدف لذاته. فالأول جوهري فيه متصل بالمضمون لهذا تقبله؛ أمَّا الثاني فهو خارجي مقحم عليه ولهذا ترفضه.
ولا شك بأن الغموض مرتبط بالغوص في حقائق الحياة والتوغل في أسرارها، بالرؤيا، أمَّا الإبهام فهو نتيجة توهم فاسد وقصور في الأداة، والغموض هنا ليس مقصودا لذاته بل هو من طبيعة الرؤيا والتعبير معاً، فالشاعرلا يهدف إلى الغموض في ذاته أو الوضوح في ذاته لأنَّ الغموض والوضوح نسبيان إنَّما يهدف إلى اكتشاف العالم والحلول في روح الأشياء([9])، فالشعر رحلة نحو الغامض الذي يتضح تدريجياً أو الوضوح الذي يصبح غامضاً تدريجياً كلما زاد التوغل فيه([10]). على أن الغموض في القصيدة يأتي بعد الانتهاء منها بحيث يحس الشاعر “بأن القصيدة أصبحت غامضة أكثر ممَّا كانت وهي بعيدة”([11]). ومعنى ذلك أن الغموض اثنان: أحدهما مرتبط بالرحلة وثانيهما بالقصيدة، أي أحدهما رؤياوي والآخر تعبيري، فالشاعر كأنما يلبي نداءً خفياً في نفسه لنور بعيد يظل يقترب منه، وكلما اقترب منه ازداد ابتعاداً أو غموضاً. وكلما أمسك بخيط وجد أن ما يرمي إليه غير ما انتهى إليه وأنه أبعد وأكثر غموضاً. ومن فالقصيدة بعد انتهائها تأتي في صورة لم يكن يعلمها الشاعر لأنها أصبحت كياناً مستقلاً بذاته. فهي غامضة لأنها ليست تعبيراً عن شيء محدد وإنما هي محاولة لاكتناه حقيقة ذلك النور الهارب أبداً والغامض أبداً.
كما ويرجع أدونيس الغموض إلى تغير مفهوم الشعر في العصر الحديث تبعاً لتغير النظرة إلى العالم. “لم تعد القصيدة الحديثة تقدم للقارئ أفكاراً ومعاني شأن القصيدة القديمة وإنما أصبحت تقدم حالة أو فضاء من الأخيلة والصور ومن الانفعالات وتداعياتها، ولم يعد ينطلق (الشاعر) من موقف عقلي أو فكري واضح وجاهز إنَّما أخذ ينطلق من مناخ انفعالي نسميه تجربة أو رؤيا”([12]). فالغموض من هنا قوام الشعر الحديث ولكن بشرط ألا يتحول إلى تعميات وأحاج، ذلك أن الشعر يعني أكثر ممَّا يقول([13]). على أن أدونيس لم يعد يهتم بالغموض أو الوضوح في الشعر بقدر ما أصبح يهتم بالإبداع، ذلك أن الغموض عنده قد يدل على عجز أحياناً والوضوح كذلك([14]). وهذا بعكس البياتي الذي نسب العجز إلى الإبهام دون الغموض، مَّا يدل على أن أدونيس هنا لا يميز بينهما. كما أنه هنا ينفي كون الغموض أو الوضوح مقياساً فنياً ويجعل من الخلق والإبداع ذلك المقياس. “فالوضوح في ذاته ليس قيمة فنية وكذلك الغموض. فهناك غموض ووضوح رديئان، وهناك غموض ووضوح جيدان. ولذا فالمسألة هي الدرجة الشعرية لا درجة الوضوح والغموض في ذاتيهما ولذاتيهما”([15]). فالشعر لا يهدف إلى الوضوح أو الغموض وإنما يهدف إلى الإبداع([16]).
([1]) ينظر: الإبهام في شعر الحداثة،العوامل والمظاهر وآليات التأويل ،عبد الرحمن محمد القعود ، مارس 2002.م: ص279.
([2])ينظر: ظاهرة الغموض في الشعر العربي، محمد اسماعيل دندي (www.startimes.com).
([3])ينظر: ظاهرة الغموض في الشعر العربي، محمد اسماعيل دندي (www.startimes.com).
([4]) ر.م.البيريس- الاتجاهات الأدبية الحديثة, ترجمة جورج طرابيشي, منشورات عويدات, بيروت، باريس، الطّبعة الثّالثة 1983 ص: 145.
([5])ينظر: ظاهرة الغموض في الشعر العربي، محمد اسماعيل دندي (www.startimes.com).
([6]) التجزيئية في المجتمع العربي: نازك الملائكة ( ص 171 )
([7]) الآداب ع 10 أكتوبر 1971 ( ص 61 )
([9]) مملكة الشعراء: نبيل فرج ( ص 95 )
([10]) البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا: البياتي ـ صبحي ( ص 50 )
([12]) زمن الشعر: أدونيس ( ص 278 )
([15]) في قضيا الشعر العربي المعاصر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( ص 58 )
([16])ينظر: مفهوم الشّعر عند رُوّاد الشّعر العربي الحر، فاتح، علاق، منشورات اتحاد الكتاب العرب ديمشق، ط2001، ص205.