ظاهرة الاعتراض في النص القرآني
ظاهرة الاعتراض في النص القرآني
أ.د. عبدالله خضر
عضو الهيئة التدريسية في الأكاديمية العربية الدولية
وهو نوع من أنواع العدول التركيبي من خلال إقحام الترتيب لعناصر الجملة أي” بتحويل أحد عناصر التركيب عن منزلته وإقحامه بين عناصر من طبيعتها التسلسل، كما يكون بزيادة عنصر أو أكثر من عنصر أجنبيّ تماما عن التركيب بقطع هذا التسلسل” ([1])، والاعتراض نتيجة التفاعل المثمر للعملية الذهنية (البنية العميقة)، داخل ذات المبدع([2])، وفائدته تقوية الكلام وتحسينه ودفع الرتابة عنه وشحن العبارة باليقظة والإثارة.
الاعتراض مصدر للفعل الخماسي (اعترض).والاعتراض بمعنى المنع فيقال: ” اعترض الشيء دون الشيء أي حال دونه ومنعه” ([3])، وهو المنع الذي يقف في مجرى النسق التركيبي للجملة، ويحول دون أن تتصل أجزاؤه بعضها ببعض اتصالاً تتحقق به مطالب التضام النحوي فيما بينها ([4]).
فقد أشار الزمخشري (ت 538هـ) إلى أن الجملة الاعتراضية “لابد لها من الاتصال بالكلام الذي وقعت معترضة فيه لأنها مسوقة لتوكيده وتقريره” ([5]) .
ويقصد الضابط المعنوي لا الإعرابي، فهي أجنبية من حيث موقعها الإعرابي غير معمولة لشيء من أجزاء الجملة التي قبلها متصلة بالكلام الذي وقعت فيه؛ لأن وجودها كان لتوكيده وتقريره.
وفي ذلك يرى السيوطي (ت 911هـ): “أن تكون مناسبة للجملة المقصودة، بحيث تكون للتأكيد، أو التنبيه على حال من أحوالها، وألا تكون معمولة لشيء من أجزاء الجملة المقصودة” ([6]) . وهو بهذا يضع شروطاً للجملة المعترضة وهي:
1 – أن تأتي في التركيب لدلالة: إما للتأكيد وإما للتنبيه على أمر يريده الكاتب.
2 – ألا يكون لها ارتباط نحوي بما قبلها .
ومن هنا نجد أن الاعتراض هو خاطر طارئ يود المتكلم أن يعبر عنه للسامع أو القارئ من دعاء أو قسم أو نفي أو وعد أو أمر أو نهي أو تنبيه إلى ما يريد أن يلفت إليه انتباه السامع. ويقع بين متلازمين يمكن الاستغناء عنه، كالاعتراض بين المسند والمسند إليه أو الفعل والفاعل.
الجملة المعترضة في القرآن الكريم
تنوعت الجملة المعترضة في القرآن الكريم على الأقسام الآتية:
1- بين الفعل ومرفوعه:
ومن ذلك قوله تعالى:
(لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) (البقرة/150)
فقوله(للناس عليكم) اعتراض وقع بين الفعل ومرفوعه، قال ابو حيان: “وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين فسهّل التذكير جداً” ([7]).
وقد حيصل الفصل بالجار والمجرور فمن ذلك قوله تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا) (آل عمران/13) فقوله(لَكُمْ) اعتراض وقع بين الفعل ومرفوعه، ولم تلحق التاء الفعل (كان) لحصول الفصل بالجار والمجرور ([8]).
2-بين الفعل ومفعوله:
ومنه قوله تعالى: ) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً( ([9]).
فقوله: (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) اعتراض بين الفعل ومفعوله.
3-بين المبتدأ والخبر:
ومنه قوله تعالى:
)هذا فليذوقوه حميم وغساق( ([10]) .
فقوله تعالى: “فليذوقوه” اعتراض بين المبتدأ وخبره ([11]).
ومن ذلك قوله تعالى: )والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفْساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون( (الاعراف:42) فقوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر.
أما الاعتراض بالشرط بين المبتدأ والخبر فذكر ابن الحاجب ([12]) أنه لا يصح إلا لضرورة، أما عند دخول النواسخ فأجاز الاعتراض بالشرط نحو قوله تعالى: )ستجدني إن شاء الله صابراً((الكهف: 69)
4-بين القسم وجوابه:
قال تعالى: )فلا أقسم بمواقع النجوم* وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم( ([13]) في هذه الآيات اعتراضان بين القسم وجوابه الموصوف وصفته.
5 –بين البدل والمبدل منه:
نحو قوله تعالى: ) واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً * إذ قال لأبيه يا أبت( ([14]) ويعلق الزمخشري على هذه الآية (إنه كان صديقاً نبياً) فيقول: “وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم، و (إذ قال) نحو قولك رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك” ([15]) .
6 –بين الشرط وجوابه:
ومنه قوله تعالى: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار( ([16]) فجملة (ولن تفعلوا) معترضة بين الشرط وجوابه.
ومنه قوله تعالى: )وإذا بدَّلنا آية مكان آية والله أعلم بما يُنزل قالوا إنما أنت مفتر( ([17]) فاعترض بـ (والله أعلم بما ينزل) بين الشرط وجوابه.
7 –بين الموصوف وصفته: نحو قوله تعالى: )وإنه لقسم لو تعلمون عظيم( ([18]) فقد اعترض بقوله (لو تعلمون) بين الموصوف (قسم) والصفة (عظيم).
8 –بين المعطوف والمعطوف عليه:
ومنه قوله تعالى: )والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومَنْ يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصروا على ما فعلوا وهم يعلمون(([19]). (ومن يغفر الذنوب إلا الله) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
وإذ تبين المراد من الجملة المعترضة، تعريفاً وموقفاً وتمثيلاً، ننتقل بعدُ لبيان أغراض هذه الجملة؛ إذ كما ألمحنا بداية، لا بد أن تكون الجملة المعترضة قد سيقت لغرض ما، ولا يمكن أن تكون قد سيقت عبثاً.
وفيما يأتي اهم الاغراض والايحاءات التي خرجت اليها الجملة المعترضة في القرآن الكريم:
1-تقرير الكلام:
ومثال ذلك قوله سبحانه:
[قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ] {يوسف:73}
فجملة( لقد علمتم) اعتراضية؛ القصد منها إثبات البراءة من تهمة السرقة؛ إذ إن إخوة يوسف بعد أن أصبحوا في موضع التهمة والدفاع عن أنفسهم، كان من المناسب الإتيان بهذه الجملة، لتقرير براءتهم، والدفاع عن أنفسهم، فكأنهم قالوا: أنتم تعلمون أن القصد من مجيئنا ليس السرقة، وإنما التزود بالطعام، وبالتالي فلا معنى لاتهامنا بالسرقة
ومنه قوله تعالى: ) هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة(القرة:25)
جملة “وأتوا به متشابها” معترضة بين متلازمين للتقرير([20]).
ومن ذلك قوله تعالى:) وإذا قتلتم نفساً فادارأتم منها((البقرة:72).
فقوله “والله مخرج” اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفائدته أن يقرر في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل الأنفس لم يكن نافعاً لهم في إخفائه وكتمانه، لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه ([21]). ولو جاء الكلام خالياً من هذا الاعتراض لكان التقدير “وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اضربوه ببعضها”.
2- التنـزيه:
ومن ذلك كقوله تعالى:
[وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ] {النحل:57}
فجملة ( سبحانه ) اعتراضيه؛ الغرض منها تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن مضمون قولهم ذلك؛ وفيها أيضاً معنى الشناعة على من جعل لله ولدا.
ومنها قوله تعالى:) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا( (البقرة: 32)([22]) . جملة (سبحانك) معترضة بين متلازمين للتنزيه
3-التاكيد:
ويُؤتى بها بقصد التأكيد، ومنه قوله تعالى:[لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] {الفتح:27}
فجملة) إن شاء الله ( جيء بها – كما قال ابن كثير – لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء.
ونحو هذا قوله تعالى:
[وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ] {الواقعة:76}
فجملة(لو تعلمون( معترضة بين الصفة (القَسَم) والموصوف (عظيم)؛ والغرض منها تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم، وتأكيد إجلاله بالنفوس. قال الآلوسي : وهو تأكيد لذلك التعظيم .
4-التوبيخ:
ويُؤتى بها بقصد التوبيخ والرد على الخصم، كقوله سبحانه:
[وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] {النحل:101
فجملة(والله أعلم بما ينزل (، جملة معترضة بين الشرط وجوابه؛ للمسارعة إلى توبيخ المشركين، وتجهيلهم. قال الآلوسي : ” والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة ، والتنبيه على فساد رأيهم ، وفي الالتفات إلى الغيبة ، مع الاسناد إلى الاسم الجليل ، ما لا يخفى من تربية المهابة ، وتحقيق معنى الاعتراض . أو حالية ، كما قال أبو البقاء وغيره “([23]). والمقصود منها تعليم المسلمين الرد على المشركين؛ لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان.
ونحو هذا قوله تعالى:
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣).
فقد ذكر المفسرون أن قوله سبحانه( ونحن أقرب إليه منكم) جملة معترضة، أفادت أن ثمة حضوراً أقرب من حضورهم عند المحتضر، وأكدت ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم.
5-رفع الإبهام:
من ذلك قوله سبحانه:
[إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] {المنافقون:1}
فقد ذكر بعض المفسرين أن قوله سبحانه) والله يعلم إنك لرسوله ( جملة معترضة، جيء بها – كما قال ابن عاشور – لدفع إيهام من يسمع جملة ) والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( أنه تكذيب لجملة ) إنك لرسول الله(، فإن المسلمين كانوا يومئذ محفوفين بعدد من المنافقين مبثوثين بينهم، شغلهم الشاغل فتنة المسلمين، فكان المقام مقتضياً دفع الإيهام([24])
عد المفسرون قوله تعالى : ( والله يعلم إنك لرسوله ) جملة معترضة ، مقررة لمضمون ما قبلها من كونه صلى الله عليه وسلم – رسول من عند الله تعالى حقا .
وفائدة الاعتراض : أنه لو اتصل التكذيب بقولهم ، لربما توهم أن قولهم في حد ذاته كذب ، فأتبع بالاعتراض لدفع هذا الإيهام .
قال في حاشية زادة : ” فإن قلت : أي فائدة في أنه جيء بقوله : ( والله يعلم إنك لرسوله ) جملة معترضة ، بين قوله : ( نشهد إنك لرسول الله ) وبين قوله : ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ؟ قلنا : جيء بها لفائدة ، وهي : إنه لو قيل : قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يشهد إنهم لكاذبون ، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسط بينهما قوله تعالى (والله يعلم إنك لرسوله ) ليزول هذا الوهم”([25]).
6-التخصيص:
مثاله قوله سبحانه:
[وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ] {لقمان:14
فجملة( حملته أمه وهنا على وهن (اعتراض بين قوله ) :ووصينا الإنسان بوالديه (، وقوله: ) أن اشكر لي ولوالديك (، وفائدة هذا الاعتراض: توجيه نظر الأبناء إلى الاهتمام بالأم أكثر من الاهتمام بالأب؛ لضعفها، فذَكَرَ ما تكابده الأم، وتعانيه من المشاق والمتاعب، في حمله وفصاله، هذه المدة المتطاولة؛ إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً، وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً .
7-ويُؤتى بها بقصد التعظيم، كقوله تعالى:
[وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا] {النساء:127}
فجملة ( وما يتلى عليكم في الكتاب ) معترضة؛ الغرض منها تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم، وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله.
ونحو هذه الآية قوله سبحانه:
[وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ] {الزُّخرف:4}
فجملة ) في أم الكتاب( معترضة، الغرض منها تعظيم القرآن، وبيان أنه نفسه ما جاء في اللوح المحفوظ، قال أبو حيان : “وهذا فيه تشريف للقرآن، وترفيع بكونه” .
8-التنبيه:
نحو قوله تعالى:
[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135
فجملة ( ومن يغفر الذنوب إلا الله ) معترضة، القصد منها تنبيه القارئ على أن مغفرة الذنوب بيد الله وحده.
أفاد الإعتراض : الحث على الإستغفار ، والتنبيه على أن الله سبحانه هو الغفور لعباده ، فالمغفرة لا تكون إلا منه سبحانه ، وفي ذلك ترغيب للمذنبين وتنشيط لهم أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل ، غير يائسين من عفوه تعالى ، ورحمته الواسعة ([26]).
وورود هذا التركيب – ومن يغفر الذنوب إلا الله – على هذا النحو ، يدل على أمور عدة منها:
أولا :- دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع ، وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار ، فلم يقل : (وما يغفر الذنوب إلا الله )، تقرير لذلك المعنى ، وتأكيد له ، كأنه قيل : هل تعرفون أحدا يقدر على غفران الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ، وسالفها ، وغابرها ، غير من وسعت رحمته كل شيء ..؟
ثانيا : – الإتيان بالجمع المحلى باللام في قوله : ( الذنوب ) ، إعلام بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار ، يتلقى بغفران ذنوبه كلها ، فيصير كمن لا ذنب له .
ثالثا : – دلالة النفي بالحصر والإثبات ، على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله ، وذلك أن من وسعت رحمته كل شيئ ، لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا .
رابعا : – في إبداء سعة الرحمة ، واستعجال المغفرة ، بشارة عظيمة ، وتطييبا للنفوس ، فإذا نظر العبد إلى هذه العناية الشديدة ، والإهتمام العظيم في شأن التوبة ، يتحرك نشاطه ، ويهتز عطفه ، فلا يتقاعس عنها([27]).
9-التحدي والتعجيز:
وذلك نحو قوله تعالى:
[وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {البقرة:23} [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] {البقرة:24
فجملة( ولن تفعلوا ) معترضة بين متلازمين فعل الشرط وجوابه، فوجود هذا الاعتراض ضروري لبيان عجزهم وأنهم لم يأتوا فيما مضى، ولن يأتوا فيما بقي أبداً مهما عملوا، وفيه تحد وتقريع لهم ووجوب ترك العناد.
فقوله تعالى ، ( ولن تفعلوا ) جملة معترضة بين الشرط وهو قوله : ( فإن لم تفعلوا ) وبين جوابه ، وهو قوله : ( فاتقوا النار ) ، لا محل لها من الإعراب ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته ، وأن ذلك غير متاح لهم ، ولو تظافرت هممهم عليه .
كما نبه بالاعتراض على عجز المخاطبين في المستقبل ، عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن ، حتى لا يتوهم المخاطبون أنهم قادرون على ذلك في المستقبل ، وإن لم يكونوا قادرين عليه في الماضي ، أو الحاضر .
قال الدكتور تمام حسان : إن قوله : – ولن تفعلوا – : ” اعتراض للتعجيز والتحدي ، بواسطة تأبيد النفي مستقبلا “([28])، وقال: ” والجملة _ ولن تفعلوا – اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرر لمضمون مقدمها ، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهذه معجزة باهرة ، حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه ، وقد وقع الأمر كذلك ، كيف لا ، ولو عارضوه بشيء يدانيه ، لتناقلته الرواة ، لتوفر الدواعي . وما أتى به مسيلمة لم يقصد به المعارضة ، وإنما ادعاه وحيا “([29]) .
والمعنى : إن ارتبتم أيها المشركون في شأن القرآن الذي أنزلنا على عبدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فأتوا بسورة من مثله في سمو الرتبة ، وعلو الطبقة ،”وادعوا آلهتكم ، وبلغاءكم ، وجميع البشر ليعينوكم ، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يماثله ، في حكمة معانيه ،وحسن بيانه . وفي هذه الآية الكريمة إثارة لحماستهم ، إذ عرض بعدم صدقهم ، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها”([30])
10-للبيان:
ومنها كون الثاني بياناً للأول، كقوله تعالى:) إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين( ([31]) فإنه اعتراض وقع بين قوله: “فأتوهن” وقوله: “ونساؤكم حرث لكم” وهما متصلان معنى؛ لأن الثاني بيان للأول، كأنه قيل: فأتوهن من حيث يحصل منه الحرث ([32]) .
وفائدة الاعتراض هنا الحث على الطهارة، واجتناب الأدبار، والتوبة من إثم إتيانها. وذكر القزويني (ت739هـ) أن النكتة في هذا الاعتراض الترغيب فيما أمروا به والتنفير عما نهوا عنه، وقد يشعر الاعتراض بأبعد من ذلك ([33]) .
11-الدعاء على الخصم:
فمن ذلك قوله تعالى:) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون( (البقرة:10)
فقوله تعالى (فزادهم الله مرضاً ) اعتراض للدعاء على مرضى القلوب المذكورين” ([34]).
نستنتج مما سبق، أن الجملة الاعتراضية في القرآن الكريم انزياح في المستوى التركيبي إذ تقوم بغرض بياني مهم؛ وبالتالي فهي ليست وسيلة لتحسين الكلام فحسب، بل إنها من مقتضيات النظم القرآني، ولو أسقطت من سياقها، لسقط معها جزء أصيل من المعنى، فهي بجانب كونها جزءاً من المعنى الأصلي، إلا أنها تحمل معاني فرعية أخرى، تلتحم جميعاً في تكوين معنى كلي .
([1]) ينظر: خصائص الأسلوب في الشوقيات: 290.
([3]) لسان العرب / ابن منظور، مادة عَرَض.
([4]) الخصائص / ابن جني 1/335 وينظر: البيان في روائع القرآن ، تمام حسان . عالم الكتب ، القاهرة، ط1 :1993م ص 183.
([5]) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري / محمد أبو موسى، دار الفكر، مصر، ص 379 .
وينظر: الاعتراض في اللغة العربية / عبد المنعم عبد الله ، مجلة الفيصل، العدد الرابع والثمانون بعد المئة، لسنة 1992م، ص 36 .
([6]) همع الهوامع / السيوطي 1/247 .
([10]) سورة ص ، آية 57 ، ينظر: الاعتراض في اللغة العربية / عبد المنعم عبد الله ص 36.
([11]) الخصائص /ابن جني 1/336 .
([12]) الكافية في النحو / ابن الحاجب ، 2/257، 281 .
([13]) سورة الواقعة، الآيات 75، 76، 77 .
([14]) سورة مريم ، الآية 41، 42 .
([15]) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري/ محمد أبو موسى ص 377 .
([16]) سورة البقرة ، الآية 24 .
([17]) سورة النحل، الآية 101 .
([18]) سورة الواقعة ، آية 76 .
([19]) سورة آل عمران، الآية 135 .
([20]) البرهان في علوم القرآن / الزركشي 3/135 .
([21]) البرهان في علوم القرآن / الزركشي 3/137 .
([22]) سورة البقرة ، آية 32 وينظر شواهد أخرى: 116، 117 .
([23])الآلوسي : روح المعاني ( مرجع سابق) ج14/ ص 231
([24])ينظر : الزمخشري : الكشاف ، ج4 / ص 107 . ومحمد الطاهر بن عاشور : تفسير التحرير والتنوير ج28/ ص 235 ، وشهاب الدين الآلوسي : روح المعاني : ج28/ ص108 .
([25])حاشية زادة على تفسير البيضاوي ،محمد بن مصلح المعروف بشيخ زادة :: ح2/ ص 497 .
([26]). – الزمخشري : الكشاف ( مرجع سابق) ج1/ ص 217-218 ، ومحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي : تفسير البحر المحيط . ج3/ ص 59 .
([27]). – أبو حيان : البحر المحيط ( مرجع سابق ) ج3/ ص 260 . والآلوسي : روح المعاني ( مرجع سابق ) ج3/ ص 60 .
([28]) البيان في روائع القرآن : ص 184 .
([29]) روح المعاني : ج1/ ص 198 .
([30])التفسير الوسيط، الطنطاوي ، ج1/ ص 96 .
([31]) سورة البقرة ، آية 222 .
([32]) البرهان في علوم القرآن / الزركشي 3/136 ، وينظر: البلاغة العربية / عبد الرحمن الميداني 2/82 .
([33]) التلخيص في علوم البلاغة / جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، ضبطه عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي ، بيروت، ط 1، 1904م ص 233 .
Tag:النص القرآني