الآراء التفكيكية عند القاضي الجرجاني
الآراء التفكيكية عند القاضي الجرجاني
أ.د. عبدالله خضر
اولا: المشاكلة والاختلاف(Difference (Analogous and
تعد ظاهرة المشاكلة من الظواهر اللغوية البارزة في الكلام العربي، وتقوم على نظام من الأحكام المحدودة ويندرج تحتها ما لا ينحصر من المظاهر اللغوية التي فزع إليها العربي في كلامه ؛ من اجل نظم الكلام وسياقه، وان خالف الوضع اللغوي، و(الشكل) في اللغة : الشبه والمثل والجمع أشكال وشكول، وتشاكل الشيئان وشاكل كل واحد منهما الآخر أي : شابهه وماثله، ويقال : هذا على شكل هذا أي مثاله، فالمشاكلة تعني في اللغة: الموافقة، والمماثلة، والمشابهة والتشاكل مثله، وفي قوله تعالى :[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا] {الإسراء:84} أي : على جدليته وطريقته وجهته ومذهبه، والمشاكل من الأمور من وافق فاعله ونظيره ([1]).
أما معناها في اصطلاح البلاغيين: فهو ذكر الشيء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته تحقيقًا أو تقديرًا، والمراد بالشيء في التعريف المعنى، فالمشاكلة، ذكر المعنى بلفظ غير لفظه الموضوع له، بل بلفظ موضوع لمعنًى آخر، والمصوغ لذكر المعنى بلفظ غيره هو وقوع ذلك المعنى في صحبة معنى آخر مدلولٍ عليه بلفظه الحقيقي([2]).
ومثال ذلك، قوله تعالى: {ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ} [الشورى: 40].
ففي الآية:
ومن أمثلة ذكر الشيء بلفظ غيره لصحبته إياه تحقيقاً قوله تعالى :[وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] {الشُّورى:40}
وقعت المشاكلة في اللفظ الثاني (سيئة) إذ الأصل أن يكون هذا اللفظ (عقوبة) ولكن مجيء معنى العقوبة مصاحباً للفظ سيئة الأول جاز أن يشاكله، وقد جاءت المشاكلة تحقيقية لأن اللفظ الأول (سيئة) قد ذكر في التركيب، والذي سوَّغ وقوع الجزاء بلفظ السيئة وقوعه في صحبة السيئة الأولى في الآية؛ إذ قصد بها معناها الحقيقي وهو الفعل المنهي عنه.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى :[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {آل عمران:54} ، وقوله تعالى : [إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا] {النساء:142} .
ومن ذلك قول أبي تمام([3]):
من مبلغ أثناء يعرب كلها
|
أني بنيتُ الجار قبل المنزل
|
في البيت السابق، جاءت كلمة (بنيت) إلى جانب (الجار)، وهو لا يقصد بها حقيقة البناء؛ لأن الجار لا يُبنى، والذي يبنى هو الجدار أو المنزل، ومن ثم جاء هذا المعنى مذكورًا بلفظٍ غير لفظه الموضوع له، والذي سوغ ذلك هو وقوع هذا المعنى بصحبة البناء الحقيقي، وهو بناء المنزل.
نستنتج مما سبق بأن لفظة (المشاكلة) تتصرف إلى معنى الموافقة أو المماثلة أو المشابهة ومن هذا يمكن إطلاق لفظة المشاكلة في اللغة العربية على الظاهرة التي يراعى فيها توافق أو تشابه أو تماثل شيئين، أيا ما كانا صوتين أو لفظين أو لفظا ومعنى أو غير ذلك، فيجرى احدهما مجرى الأخر وان كانا مختلفين، فمثال الصوتين : اظلم والأصل اظتلم، صراط وسراط، صيام والأصل صوام، ست والأصل سدس، ومثال اللفظين : كقوله تعالى : [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ] {المائدة:6} ، وقول العرب : هذا حجر ضبّ خرب.
ومثال اللفظ والمعنى كقوله تعالى : [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] {آل عمران:59} وقد ذكر الزركشي (ت 794هـ) انـه : “ولم يقل من (طين) كما اخبر سبحانه في غير موضع : [إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ] {ص:71} إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف،وذلك انه أدنى العنصرين وأكثفها لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك ؛ فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر”([4])، وفي قوله تعالى: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا] {الإسراء:44} ولم يقل (لا تعلمون) ؛ لان في الفقه زيادة على العلم([5]).
وقد بدت ملامح مصطلح المشاكلة على أيدي البلاغيين، فأطلقوه على لون من ألوان البديع ويعني: ذكر الشئ بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا([6]) ، نحو قوله تعالى :[وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ] {المائدة:116}، إذ أطلق النفس على ذات الله ؛ لوقوعه في صحبتي (نفسي)على سبيل مشاكلة اللفظ للفظ ،وقوله تعالى :[وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {الحشر:19} ،أي : أهملهم ذكر الإهمال هنا بلفظ النسيان لوقوعه في صحبته، او تقديرا :نحو قوله تعالى : [صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] {البقرة:138} ، فصيغة مصدر مؤكد لقوله تعالى :[ آَمَنَّا بِاللهِ] {البقرة:136} قبله، والمعنى : تطهير الله ؛ لان الإيمان بطهر النفوس فعبر عن الإيمان بالله: (صبغة الله) أي : دين الله أو فطرته التي فطر الناس عليها، لوقوعها في صحبة الإيمان([7]).
وأما علماء العربية المتقدمون فلم توصف (المشاكلة) عندهم على أنها ظاهرة عامة بل جاءت متفرقة في كتبهم مقصورة على أمثلة لهذه الظاهرة ومعبرة عنها بمسميات أخرى، ففي الصوت نجد “المضارعة و الإدغام الأصغر و المناسبة و الإتباع الحركي و الإمالة و المجاورة”، وفي الصرف نجد “الفواصل القرآنية و علة المشابهة (حمل النظير على النظير) و ظاهرة الإتباع و المحاذاة”، وفي النحو نجد “المجرور بالمجاورة و حركة الإتباع (إتباع المستثنى و المستثنى منه) و باب الاشتعال”.
كما أن علماء العربية عبروا عنها بمصطلحات منها : فعند سيبويه (ت 180هـ) عبر عنها بالمضارعة([8]) ، وابن جني (ت392هـ) عبــر عنها بمصطلح الإدغام الأصغر([9]) ،وابن فارس (ت395هـ) عبر عنها بمصطلح المحاذاة و المزواجة([10]).
ولا بد من الإشارة إلى أن الزركشي عقد بابا واسعا في كتابه (البرهان في علوم القران) لما يجيء في التنزيل من مشاكلة اللفظ للفظ، ومشاكلة اللفظ للمعنى([11]).
أنواع المشاكلة:
وتأتي المشاكلة على قسمين:
1-المشاكلة التحقيقية:
هي التي يتحقق فيها لفظ المصاحب للفظ المشاكلة، كقوله تعالى: [الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {البقرة:194} فقوله (فاعتدوا) مشاكلة تحقيقية، ومعناه (جازوه على اعتدائه)، إذ عبّر عن المجازاة بالاعتداء لانها سببها.
ومن ذلك ما هو معروف ومشهور، من قول أبي الرقعمق([12]) الأنطاكي([13]):
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه
|
قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
|
فالجبة والقميص لا يطبخان، وإنما يخاطان، والذي سوغ الطبخ في جانب الجبة والقميص، وقوع الطبخ الحقيقي مصاحبًا له في البيت، وهي مصاحبة حقيقية في اللفظ.
ومنه قوله تعالى:
[هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ] {الرَّحمن:60}
ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم ([14]):
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلين.
فهو لا ينسب لنفسه( الجهل)، لكن جاء به على صيغة المشاكلة: (لا يجهلن أحد علينا فنعاقبه بمثل ما فعله أو بما يزيد)، وقد سمى العقاب جهلاً على طريقة المشاكلة.
2-المشاكلة التقديرية:
وهي أن يكون اللفظ المُشاكَلُ محذوفاً ومقدراً بقرينة ما، ولا يذكر فيها إلا اللفظ المشاكِل، وذلك كقوله الله تعالى: [قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة:136- 138].
فقد كان النصارى، يغمسون أولادَهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إن ذلك تطهير لهم، فإذا فعل الواحد منهم ذلك بولده، قال: الآن صار نصرانيًّا حقًّا، ولا يزال هذا العمل موجودًا إلى يومنا هذا، فكانوا يسمون ذلك الفعل صبغة، وهو مصدر على وزن فِعلة بكسر الفاء وسكون العين، فهو اسم هيئة، والشاهد في الآية الكريمة قوله: {ﮚ ﮛ}، أي: تطهير، فالمؤمنون أمروا أن يقولوا: طهرنا الله بالإيمان تطهيرًا لا كتطهير النصارى الذي يسمونه صبغًا، فالإيمان يُطهر النفوس ويزكيها من أدْرانها وأوساخها، فجيء بلفظ الصبغة مقصودًا به التطهير بالإيمان على سبيل المشاكلة، وإن لم يكن قد تقدَّم لفظ الصبغة؛ لأن قرينة الحال التي هي سبب الغمس، من غمس النصارى أولادهم في الماء الأصفر، دلت على ذلك.
ومثال ذلك أيضًا: أن تقول لرجل رأيته يغرس شجرًا، وأنت تعلم أنه يسيء عشرة أهله: اغرس المعروف في أهلك، فعبرتَ عن صنع المعروف بالغرس، بوقوعه في صحبة الغرس تقديرًا، بقرينة رؤيتك إيَّاه وهو يغرس الشجر، وكأنك قلت له: اغرس المعروف كما تغرس الشجر.
ومن هذا النوع، ما رُوي: أن بعض الولاة كان يغرس سيالًا، السيال شوك أبيض طويل إذا نُزع خرج منه مثل اللبن، وكان ذلك في جامع بغداد، فوقف عليه شاعر وأنشد([15]):
إن الولاية لا تدوم لواحد
|
إن كنت تنكره فأين الأول؟
|
|
واغرس من الفعل الجميل غرائس
|
فإذا عُزلت فإنها لا تُعزل
|
فقوله(اغرس) أقام مقام (اسمع)؛ ليشاكل فعل الوالي، وقد أوضحنا أن المشاكلة هي ذكر شيء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته تحقيقًا أو تقديرًا، وأنها قسم قائم برأسه من المحسنات البديعية، إلا أن هذا اللون نراه يجامع أحيانًا، وفي بعض الأساليب ألوانًا أخرى من الفنون البديعية؛ سواء المعنوية، أو اللفظية، ولا تعارضَ بين المشاكلة في هذه الأساليب، وبين تلك الفنون، وفي هذه الحالة حيثما نظرت إلى الأسلوب، وما فيه من ألوان المحسنات، أدخلته فيها، فإذا نظرت إلى ما فيه من المشاكلة فهو من باب المشاكلة، وإذا نظرت إلى ما فيه من ألوان أخرى، فهو من بابها.
وفيما يأتي بعض الألوان الفنية التي تُجامع المشاكلة:
أ. الطباق: وهو أحد الألوان البديعية التي تُحسن المعنى وتزينه، وأنه الجمع بين المعنيين المتقابلين في الجملة([16]).
والمشاكلة قد تُجامع الطباق إذا كان طرفاها ضدين، وذلك كقول القاضي شريح، لرجل أدلى عنده بشهادة: “إنك سبط الشهادة”، فقال الرجل: “إنها لم تجعد عني”، فالسبوطة، معناها: السهولة والاسترسال، والامتداد، والجعودة، معناها: الصعوبة والالتواء، وهما وصفان حقيقيان من أوصاف الشعر، يقال: شعر مسبوط، يعني: منظم ومرسل، وشعر مجعد، يعني: ملتوٍ ومتداخل بعضه في بعض، وقد أراد القاضي شريح، هنا من سبوطة الشعر، استمرار حفظها لدى الشاهد، وهذا تعبير مجازي مبناه التشبيه، فشاكل الرجل في الرد، وقال: إنها لم تجعد عني، يعني: لم تغِب ولم تصعب ولم تلتوِ، والذي سوغ له هذا، تسمية القاضي، استمرار الشهادة: سبوطة، فكان هذا مدعاة ذاك([17]).
وفي هذا المثال، يتضح اجتماع المشاكلة مع الطباق، فالشاهد الذي أدلى بشهادته عند القاضي شريح، ساغ له أن يصف الشهادة بالجعودة في قوله: إنها لم تجعد عني، مشاكلًا بذلك قول القاضي له ابتداءً: “إنك لسبط الشهادة”، أما الطباق: فلأن السبوطة ضد الجعودة، كما هو واضح، والجمع بين الضدين؛ هو الطباق على نحو ما علمت.
ب. مراعاة النظير: وهي الجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه، لا بالتضاد، وهو أحد الفنون البديعية المعنوية، وهذا اللون قد يجامع المشاكلة كالطباق، وذلك إذا كان طرفا المشاكلة متناسبين([18]).
كما رُوي: أن رجلًا لم يؤدِّ ما عليه من فرائض نحو ربه، قال لناصح له: أليس لا إله إلا الله مِفتاح الجنة؟ يقصد أن النطق بها كافٍ لتحقيق رضى الله عنه، فيدخله الجنة، فقال الناصح: وكل مفتاح له أسنان، وأسنان مفتاح الجنة الفرائض من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج.
فسُمَّت هذه الفرائض أسنانًا على سبيل المشاكلة، حيث سمَّى الأول لا إله إلا الله مفتاحًا، وواضح أن طرفي المشاكلة، وهو المفتاح والأسنان، بينهما تناسب، فيكون أيضًا مراعاة النظير، فإذا نظرت إلى تسمية الفرائض أسنانًا؛ لوقوعها في صحبة المفتاح، قلتَ: إن في الأسلوب مشاكلة، وإذا نظرت إلى التناسب بين المفتاح والأسنان، قلت: إن في هذا الأسلوب مراعاة النظير، وإذا نظرت إليهما معًا، قلت: في الأسلوب محسنان، مشاكلة باعتبار، ومراعاة نظير باعتبار، ولا تعارضَ؛ لأن النكات البلاغية لا تتزاحم، وإنما قد تتوافر في الشاهد الواحد.
ت. الجناس: و معناه عند البلاغيين: تشابه الكلمتين لفظًا مع اختلافهما معنًى([19])، وهو من المحسنات اللفظية، والمشاكلة قد تجامع هذا اللون، ونذكر من ذلك، ما جاء في قوله تعالى: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] {الشُّورى:40} وقوله: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] {البقرة:194} ، فإذا نظرتَ إلى ذكر الجزاء بلفظ السيئة، وهي السيئة الثانية؛ لوقوعه في صحبة السيئة الأولى، قلت: أن في الآية مشاكلة، وإذا نظرت إلى أن الكلمتين اتفقتا في اللفظ واختلفتَا في المعنى قلت: أن في الآية جناسًا، وإذا نظرت إليهما معًا قلت: أن في الآية مشاكلة وجناسًا، والآية الثانية، وقع فيها الجزاء بلفظ الاعتداء؛ لوقوعه في صحبة الاعتداء، فإذا نظرت إلى هذا، قلتَ: أن فيه مشاكلة، وإذا نظرت إلى أن اعتدى، واعتدوا كلمتان تشابهتا لفظًا، واختلفتَا معنًى، قلتَ: في الآية جناس، ولا تعارض.
لذلك يرى بعض العلماء، باندراج المشاكلة، في باب المجاز اللغوي؛ لعدم انطباق معناه عليها، ذلك أن المجاز لا بد فيه من علاقة مصححة لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له، وعلاقات المجاز أحصاها العلماء وتعارفوا عليها، فإذا كانت العلاقة المشابهة؛ كان المجاز استعارة، وإلا فالمجاز المرسل، وعلاقاته معروفة ومحصورة، وإذا فتشنا في المشاكلة، عن العلاقة التي جوَّزت النقل وسوغت استعمال اللفظ في معنى غير معناه الموضوع له، وجدنا ألَّا علاقة في نظر هؤلاء البعض، سوى وقوع اللفظ الثاني في صحبة اللفظ الأول، حقيقةً أو تقديرًا.
وأن هذا الوقوع فقط، هو المسوغ لمجيء المعنى الثاني، بلفظ المعنى الأول، وهذا المسوغ لا يرقى إلى درجة المجاز؛ إذ أن الوقوع ليس معدودًا ضمن علاقات المجاز المتعارف عليه، فلا تكون المشاكلة من باب المجاز، وإذا كانت المشاكلة لا تدخل في باب الحقيقة، كما أنها لا تدخل في باب المجاز، فإن هذا الفريق من البلاغيين، يرى أن المشاكلة واسطة بين الحقيقة والمجاز.
ويقول بهاء الدين السبكي، في: (عروس الأفراح): “والتحقيق أن المشاكلة من حيث هي مشاكلة ليست حقيقة، ولا مجازًا؛ لأنها مجرد ذكر المصاحب بلفظ غيره لاصطحابه”([20]).
ويعلق عبد الحكيم، في حاشيته على تعريف السعد التفتازاني، في: (المطول)، للمشاكلة بقوله: قال الشارح -يقصد السعد التفتازاني في شرحه لـ(المفتاح)- سواء كان بينهما شيء من العلاقات المعتبرة في المجاز، كإطلاق السيئة على جزاء السيئة المسبب عنها، المترتب عليها، أو لا، كإطلاق الطبخ على خياطة الجبة والقميص. ولذلك قوي إشكال المشاكلة؛ لأنها ليست بحقيقة وهو ظاهر، ولا المجاز؛ لعدم العلاقة، ولا محيص سوى التزام قسم ثالث في الاستعمال الصحيح، أو القول بأن الواقع المذكور نوع من العلاقة، فيكون مجازًا.
ويكمل الشيخ عبد الحكيم، تعليقه فيقول أيضًا ما نصه: القول بكونه مجازًا ينافي كونه من المحسنات البديعية، وأنه لا بد في المجاز من اللزوم بين المعنيين في الجملة، فتعين الوجه الأول، ولعل السر في ذلك، أن المشاكلة نقل المعنى من لباس إلى لباس، فإن اللفظ بمنزلة اللباس؛ ففيه إراءة المعنى بصورة عجيبة، فيكفيه الوقوع في الصحبة، ويكون محسنًا معنويًّا، وفي المجاز نقل اللفظ من معنًى إلى معنى، فلا بد من علاقة مصححة للانتقال، والتغليب أيضًا من هذا القسم؛ إذ فيه أيضًا نقل المعنى من لباس إلى لباس آخر، وإن صرح الشارح -رحمه الله- فيما سبق بكونه من باب المجاز.
كما أن الحقيقة، والمجاز، والكناية أقسام للكلمة، إذا كان المقصود استعمال اللفظ في المعنى، وأما إذا كان المقصود نقل المعنى من لفظ إلى آخر فهو ليس شيئًا منه، ويذهب العلامة عبد الحكيم -كما يذهب السبكي- إلى أن المشاكلة واسطة بين الحقيقة والمجاز، وخروج المشاكلة عن باب الحقيقة، أمر لا جدالَ فيه ولا مناقشةَ، وذلك لوضوحه وجلائه.
أما كونها خارجة أيضًا عن باب المجاز، فهو موضع نظر ومناقشة، وذلك إذا تتبعنا أمثلة المشاكلة وأساليبها، وجدنا في كل منها نوعًا من علاقات المجاز، سواء المشابهة أو غيرها من علاقات المجاز المرسل، فنجد علاقة المشابهة، في قول أبي الرقعمق السابق([21]):
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه
|
قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا
|
إذ عبر الشاعر عن الخياطة بالطبخ؛ تشبيهًا لها به، في كونها مما ينبغي أن تكون موضع رغبتهم، ومحل عنايتهم، فإذا كانت رغبتهم قد اتجهت إلى الطبخ ليطعموا، فينبغي أن تكون منهم مثل تلك الرغبة في خياطة جبة وقميص، يتقي بهما قارس البرد، ويعتصم من أذاه، وإجراء الاستعارة في هذا الأسلوب على هذا النحو لا تجد فيه حرجًا، أو غَضاضةً، كما نجد المجاز المرسل لعلاقة السببية في قوله تعالى: {ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ}، وقوله: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] [البقرة: 194]، وقوله: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] {النحل:126}.
بل إن الخطيب القزويني، في إيضاحه ساق بعض هذه الآيات شاهدًا على هذا المجاز المرسل، الذي تكون علاقته السببية، كما ساقها نفسها مثالًا للمشاكلة؛ لذا فإنا نطمئن إلى أن المشاكلة تدخل في باب المجاز، سواء الاستعارة أو المجاز المرسل، وهذا لا تعارض فيه؛ إذ أن عدها في باب المشاكلة منظور فيه إلى الوقوع في صحبة اللفظ الأول الدال على معناه الحقيقي، وإن هذا يحسن المعنى ويكسبه جلالًا وشرفًا، وعدّها من باب المجاز منظور فيه إلى أن استعمال اللفظ في غير ما وُضع له لعلاقة مصححة لهذا النقل، وقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
وتجدر الاشارة بأن المشاكلة وإن جنح معناها إلى جانب اللفظ، إلَّا أنها معدودة ضمن المحسنات المعنوية، والبلاغيون ينظمونها ضمن فنون هذا القسم وألوانه، ذلك أن نقل اللفظ من معناه إلى معنى آخر، يُضفي على المعنى الثاني بهاءً ويكسوه جلالًا وجمالًا، كما أن التصرف في المعنى على هذا النحو، يجعلك أمام معنيين: معنى حقيقي لا يحتاج إلى فكر، ومعنى آخر يحتاج إلى فكر وتدبر، والمشاكلة معدودة ضمن الفنون المعنوية، حتى ولو جامعت محسنًا لفظيًّا كالجناس، وإنك لا تَعُدُّ الأساليب التي جامعت فيها الجناس محسنًا من القسم اللفظي، إلَّا إذا نظرت إلى الجناس، وإلى اتحاد كلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى فقط، دونما نظر إلى ذكر معنًى بلفظ غيره للمصاحبة، فأما إذا نظرت إلى ذلك وإلى أن التصرف كان في جانب المعاني، فلا خلاف في أنها من المحسنات المعنوية.
ولكل ماسبق يمكن القول أن المشاكلة تدخل في باب المجاز، سواء الاستعارة أو المجاز المرسل، ولا شك أن المجاز -وهو من أبواب علم البيان- يدخل في صميم البلاغة ومعناها، ولا خلاف على ذلك بين البلاغيين ونُقاد الأدب، غير أن دخول المشاكلة في صميم البلاغة، ليس من هذه الناحية فقط، بل إن أسلوب المشاكلة بما له من مقاصد يؤديها المتكلمون، وأغراض يرمون إليها، يُعد من متممات الكلام، ولا تصح للكلام بلاغته إلَّا به، ولا يعني هذا أن هذا اللون مطلوب في كل الأساليب، ولكن البلاغة لا تكتمل في الأساليب التي وردت على هذا الفن إلَّا به، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك تعليقًا على قول الأنطاكي، ومما هو شبيه ببيت الأنطاكي، بيت ابن جابر الأندلسي، الذي يقول فيه([22]):
قالوا اتخذ دهنًا لقلبك يشفه
|
قلت ادهنوه بخدها المتورد
|
وأسلوب المشاكلة في البيت من الوضوح بحيث لا يخفى عليك، ولكن يزداد الأمر جلاءً ووضوحًا، إذا قال قائل: بل اسقيني طعامًا، ردًّا على من سأله: هل أسقيك ماءً؟
فقد أبان القائل عمَّا في نفسه من أغراض بهذه المشاكلة، واستطاع أن يحقق بهذا الأسلوب عدَّة مقاصد، فلقد أبرز حاجته، وكشف عن مطلبه، وهو الطعام، وأنه ليس بحاجة إلى الماء، كما نبه المتكلم إلى سهوه وغفلته، وقد كان عليه أن يعلم حاجته إلى الطعام، وكأنه يوبخه قائلًا: كيف يشرب الجائع؟، وجاءت أغراض المتكلم، في صورة موجزة دون إطناب أو تطويل، وفي قول الأنطاكي في البيت المشهور([23]):
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه
|
قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا
|
نجد أن الشاعر كان له إخوان أربعة ينادمهم أيام كافور الإخشيدي، فجاءه رسولهم في يوم قارس البرد، وليست له كسوة تقيه شره، فقال له: إخوانك يقرءونك السلام، ويقولون لك: قد اصطبحنا اليوم، وذبحنا شاة سمينة، فاشتهِ ما نطبخ لك منها فكتب إليهم:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة
|
فأتى رسولهم إلي خصوصًا
|
|
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه
|
قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا
|
فقد عبر الشاعر عن الخياطة بالطبخ؛ تشبيهًا لها به في كونها مما ينبغي أن تكون موضع رغبتهم، ومحل عنايتهم إذا كانت رغبتهم متجهة إلى الطبخ؛ ليأكل ما طبخوه، فينبغي أن تكون منهم تلك الرغبة في خياطة جُبة وقميص، يقيانه شر البرد، ويعتصم بهما من أذاه، وقد وصل الشاعر إلى غرضه، بتنبيههم إلى ما يريد بهذا الأسلوب، مع ما اشتمل عليه من استعارة رائعة.
وفي قول الله تعالى: { ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ}، وتسمية تطهير الله صبغة، مشاكلة لفعل اليهود أو النصارى، إشارة إلى أن الإسلام الذي أراده الله لخلقه هو المطهر الحقيقي للنفوس والصدور، دون فعل اليهود أو النصارى، وأن فعل هؤلاء الذي يسمونه صبغًا لا يظهر له أثر، ولا علامة له؛ بينما أثر الإسلام وعلاماته ظاهرة واضحة على المؤمنين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
وقول بعض شعراء ملوك همدان([24]):
وكل أناس لهم صبغة
|
وصبغة حمدان خير الصبغ
|
|
صبغنا على ذاك أبناءنا
|
فأكرم بصبغتنا في الصبغ
|
فهذه الإفادة التي أفادتها الآية الكريمة، داخلة في مقاصد الكلام ومراميه، واللون الذي حقق هذه الإفادة، له مدخل في بلاغة الآية وإعجازها.
ومن أسلوب المشاكلة قول امرئ القياس([25]):
كأني لم أركب جوادا ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
نرى بأن الشاعر “جمع بين الشيء وشكله فذكر الجواد والكر في بيت وذكر النساء والخمر في بيت” ([26])، ويروى بأن هذه الملاحظة حدثت في مجلس سيف الدولة إذ روى ابن رشيق إن هذه الملاحظة لم تجد قبولا في نفس الدولة، واعترض عليها أحد الحضور بالقول: “لا كرامة لهذا القول فالله أصدق منك حيث قال: [إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى،وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى] {طه، 118، 119} فأتى بالجوع مع العرى ولم يأت به مع الظمأ”([27]) والجمع بين الشيء وشكله رأي ابن رشيق، إذ استند على رأي ذوقي سريع والآخر استند على رأي علمي نقدي عميق وهو بذلك يوافق عبدالقاهر الجرجاني الذي يقول: “إن مجموع الأمرين في التشبيه يأتي من شدة الائتلاف مع شدة الاختلاف” وبذلك يهدف الجرجاني إلى معرفة أقاصي غايات الدلالة وبذلك تكون القراءة النقدية العميقة ليس البحث عن المعنى في الجمع بين الشيء وشكله ولكن القراءة الحقيقية والعميقة إنها تقدم المشاكلة بين الشيئين اللذين هما غير متشاكلين ليرى أن الجمع بين المتنافرات أقرب إلى الشاعرية من الجمع بين الأشياء المشتركة في الجنس المتفقة في النوع.
ومن ذلك فإن مسؤولية العقل القرائي الكشف عن أبعاد النص وجمالياته بالتأمل وإعمال الفكر لذلك كان مبدأ رشيق قائم “منطق المعنى” بالجمع بين الشيء وشكله بينما الجرجاني يقوم مبدأه على المخالفة والجمع بين المتنافرات لذلك كان الجرجاني موجها حديثه ونظريته للقارئ وليس لمبدعه وهي ما يسمى باللغة الداخلية أو الشعور أو التجربة وبذلك حاصر عبدالقاهر الجرجاني المعنى وانطلق للفكر والتربية والعمق الدلالي وليس مجرد رأي ذوقي طارئ في المعنى والائتلاف لذلك ركز الجرجاني على دلالة الجملة والبنية اللغوية لأن التأويل بدلالته عنده على المجاز مطلقا بينما الدلالة اللغوية خص التشبيه والاستعارة لأن كل استعارة مجاز وليس كل مجاز استعارة فما يدرك من طريق اللغة يأتي من تحولات المفردة وهو مجاز الكلمة وما يدرك عن طريق المعنى والعقل هو مجاز الجملة حيث يقول: “إن الأوصاف اللاحقة للجمل لا يصح ردها إلى اللغة لأن التأليف هو إسناد”([28]) وبذلك يكون التأليف “البنية” ليس مجرد شكل وعلاقة ترتيب ولكن البنية إضافة تقوم على التساند والتكامل وهما شيئان متماسكان وبذلك تنحرف الجملة من الظاهر إلى الغياب وبذلك ركز الجرجاني على أسس للقراءة الجمالية والنقدية ألا وهي([29]):
1-التركيب والتأليف مقابل المفردة وصار مجموع الكلام هو مجال المقارنة والتشريح.
2-باطن الدلالة يقابل ظاهرها الذي هو المعنى وما يتلو ذلك “الغياب”.
3-التأثير وهو الأثر الجمالي الناتج عن التأليف والتركيب.
4-الإشارة وهي في مجموع الكلام والجمل بحيث يكون المعنى الأول إشارة للمعنى الثاني.
وإذا كانت عمودية الشعر الذي تجادل فيها النقاد الغذامي فإنها العمودية حيث قال المرزوقي عنها “مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتصارهما للقافية حتى لا منافرة بينهما”([30]) وبذلك يقول الغذامي: “إن المشاكلة تستوجب صحة المعنى استقامة اللفظ الإصابة في الوصف ومناسبة المستعار منه للمستعار له”([31]).
بينما الجرجاني يأتي بالتصور النصوصي القائم المتحرر من سلطة المدلول القاطع إلى تعدد المعاني، “فهو يجعل من مناقب اللفظة أن تتعدد معانيها، أي أنه يحرر الدال على سلطة المدلول القاطع”([32]) إذ يقول: “إنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت… فوائد تراها مكررة في مواضع ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد وشرف منفرد وفضيلة مرموقة وخلابة ومن خصائصها أنها تذكر بها وهي عنوان مناقبها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر”([33])، فإن دل قوله على شيء فإنما يدل على استقلالية اللغة عن الاعتبارات الذهنية، فالصيغة اللفظية هي الرموز واللغة هي النظام المدبر لتلك الرموز، والعلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية عرضية ينتجها التقليد والعرف في تحرك طبيعي خفى.
وهذا ما يراه دي سوسير في كون اللغة بمثابة نظام من العلامات، لكن ليس كل نظام من العلامات هو بمثابة لغة، غير أنه من الخطأ أن نأخذ نظام اللغة العادية ونطبقه على اللغة الشعرية التي تتفرد بمقومات وخصائص من صميم التوجه الجمالي نحو التعبير، وبوصفها لغة إيحائية ومجازية وأولية، فإنها تؤثر استمرار تفردها بما يجعل من عملية التلقي وحدها القادرة على التسلل إلى بنيات النص محاولة تجاوز مستوياته معنى ومرجعا وإحالة، وإن هدفها هو البحث في ضروب من المعاني التي صقلتها التجربة الشعرية بقدرتها على النفاد في عالم الأشياء([34]) “فالتجربة الشعرية توظف العلامات اللغوية المجردة والعرفية بوصفها بنية أيقونية وصورية شبه طبيعية ومعللة ودالة في الوقت ذاته، وهو انتقال من نمط علامي(العلامة الرمزية)-الكلمة مثلا- إلى نمط علامي آخر(العلامة الأيقونية)-الصورة الشعرية مثلا- بحيث تعيد خلقه وابتكاره، وتستمر في تشييد علائق جديدة بالاعتماد على عملية الإسناد التي تستفيد من إسناد المسميات إلى الأشياء وفق المنظور الشعري”([35]) وأفق التأمل باقتضائه استدعاء أكثر من مدلول واحد، قياسا على المعنى ومعنى المعنى.
وبذلك قوض دي سوسير، أصول الدرس التقليدي للغة، الذي كان يرى فيها وسيلة معبرة عن الأشياء. وهو ما أضفى على اللغة، أهمية لم تكن تتمتع بها من قبل. فبهدف وصف واستقراء أبعاد الظاهرة اللغوية، لجأ منهجيا، إلى اشتقاق بضع ثنائيات عدت مرتكزات أساسية في المبحث اللغوي الحديث، وأهمها اللغة والكلام والدال والمدلول وغيرها. وقد حازت الإشارة اللغوية باعتبارها النتيجة الاجمالية للارتباط بين الدال والمدلول، مكانا مهما ضمن جهود سوسير اللغوية.
وتجدر الاشارة بأن تفكيكة (دريدا)، تركز بكيفية قوية على إعمالات المنهج السوسيري([36])، إذ استعان جاك دريدا في بلورة معنى “الاختلاف” على مطيات اللسانيات الحديثة ولاسيما اعمال فردبينان دي سوسير في كتابه “محاضرات في اللسانيات العامة”، وبالضبط في موضوع مفهوم اعتباطية العلامة اللغوية.
فالتفكيكية لا تعترف بحدوث الدلالة، لأنه يعدّ ذلك تمركزا ميتافيزيقيا، وهو وفقا لذلك يجعلها معلقة بين الآثار المتحركة واللانهائية التي تفرزها اختلافات اللغة، وقد انطوت طروحات دريدا، التي استثمرت مقولات سوسير المهمة عن الاختلاف، على فهم خاص، فهي طورت هذه المقولات لتقلب نتائجها رأسا على عقب. إن الهدف الثمين الذي يناور دريدا للإطاحة به، عبر هذا التوظيف لمقولات سوسير هو المعنى، فهو يصير في ضوء المعالجة الدريدية ناتجا ثانويا، لتفاعل يفترض أنه لا نهائي بين الدالات، وليس مفهوما مربوطا بقوة إلى ذيل دال معين. والدال لا يعطينا مدلولا مباشرة، كما تعطي المرآة صورة، فليس ثمة منظومة متآلفة من التناظرات المفردة بين مستوى الدالات ومستوى المدلولات في اللغة. ولكي تتعقد الأمور أكثر، فليس هناك حتى تمييز ثابت بين الدالات وبين المدلولات. فإذا أردت معرفة معنى (أو مدلول) دال ما، فبإمكانك البحث عنه في قاموس، لكنك لن تجد سوى المزيد من الدالات، التي يمكنك البحث عن مدلولاتها بالتالي، وهلم جرا.
إذن يمكن القول بان الجرجاني في تناوله (معنى المعنى) قد دخل الى مركز التفكيكية، لأن معنى المعنى يحصل بالابتعاد عما هو مألوف ومتداول مما يدل عليه الألفاظ في بطون المعجمات، والعدول عنها الى المعاني الثانوية والتي تحتاج الى كد ذهني للوصول إليها، وهذا ما دعت اليه التفكيكية بالفصل بين وجهي العلامة اللغوية أي بين الدال والمدلول، بين اللفظ ومعناه من خلال ترك المألوف الشائع عن طريق كسر القواعد المتعارف عليه وإحكامها من جديد، فتفاجئ المتلقي بتوليد المعاني المجازية الجديدة عن طريق تبديل علاقة الملائمة والتجانس بين الدال والمدلول الى علاقة اللاتجانس واللامعقولية بينهما، وذلك كما مبين في الشكل الآتي:
(علاقة التنافرية) (علاقة الملائمة)
الدال(رأيت) المــدلول(1) (أسدا) المدلول(2) (أي شجاعا مثل الأسد)
د= م(1)
د= م(2)
فالمتلقي عندما يسمع لفظة(رأيت) فإنه يتوقع المفعول به من الأنواع الآتية:
(رجلا)
الدال(رأيت) (قافلة)
(فرسا)
لكن المتلقي يتفاجأ بسماعه لفظة لا ترتبط بعلاقة الملاءمة أو التجانس بين الفعل والمفعول به:
(العلاقة التنافرية واللامعقولية) (الملاءمة)
(رأيت) (أسدا) (أي شجاعــا كالأســد)
(المعنى المعجمي) (المعنى المجازي)
وانطلاقا مما سبق فإن العمودية في الشعر تقوم على “المشاكلة” في حين تقوم المخالفة على الجمع بين المتنافرات للوصول إلى “معنى المعنى” لدى الجرجاني في نظريته، لذلك يأتي الغذامي بالبيت الشهير:
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء([37])
إذ يقول “لو عرضنا البيت على تعريفات الأدب لأنطبقت عليه، مما يعني أنه ادب، ليس في العرف العربي فقط، وإنما في كل الأعراف الأدبية”([38]).
فهذا محمد مندور يعرف الأدب عن الفرنسية أنه “صياغة فنية لتجربة بشرية”([39])، وهذا البيت قائم على تجربة بشرية لقوم جلسوا حول ماء، وهو يقوم على صياغة فنية؛ لأنه يرتكز الإيقاع العروضي للبحر السريع وقائم الصياغة البلاغية التشبيه بأركانه الثلاثة ويقوم على التحويل الدلالي من ضمير المتكلمين “كأننا” إلى “قوم”، وينطبق عليه تعريف قدامة بن جعفر الشعر “كلام موزون مقفى ذو معنى”([40])، وينطبق عليه تعريف الجاحظ “الشعر صياغة وضرب من النسيج وجنس من التصوير”([41])، ويزيد طه حسين قضية الجمال الفني الى التعريف ليغرينا بالطمأنينة إليه فقال”نستطيع أن نعرف الشعر آمنين بأنه الكلام المقيد بالوزن والقافية والذي يقصد به الى الجمال الفني”([42])، ولذلك يرى الغذامي إن البيت الشعري يحدث تصادماً ما بين الذوق والعلم، إذ إن الذوق والذائقة تنفر منه والعلم يعجز عن إخراجه من مملكة الأدب ولكن الناقد الفرنسي لانسون يحل هذه المعضلة بتعريف الحكم النقدي بأنه “الذوق المعلل” بمعنى إنه الحكم القائم الذوق المدرب إذا تمكن من تبرير أحكامه والبرهنة عليها ولذلك كان البيت الشعري السابق([43]):
- نص أدبي تتفق تعريفات الأدب السابقة.
- لا يقوى هذا البيت على إرضاء الذائقة الأدبية.
وبذلك تحول إلى نص مغلق وليس نصاً مفتوحاً مما يعكس إن المشاكلة في كثير من حالاتها هي نص مغلق، فيتحول النص المفتوح إلى “التجاوز” في اللغة العربية بما أنها مجازية، إذ تتجاوز الصور الحسية وتتجه إلى المقصود من معنى المجاز وهذا مقصد الجرجاني في نظريته “معنى المعنى”؛ لأن البيت القائم على المشاكلة نص مغلق.
ويأتي الغذامي بالمتنبي كدليل على النص المفتوح:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملئ جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم([44])
إن هذين البيتين إشارة إلى معنى الاختلاف في النص الأدبي، فالشاعر يشير إلى عنصر “الشوارد”، ويشير إلى عنصر “يختصمون”، فالشاردة تلمح إلى الشيء المستحيل للإدراك والفهم ولو تم الإمساك بها لما صارت شاردة، و”يختصمون” إشارة إلى الاختلاف الذي لا يفضي إلى اتفاق باستمرارية وديمومة مما يفضي إلى أن النص المختلف مفتوح، لذلك قال المتنبي عن نفسه:
ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني أنا الصائح المحكى والآخر الصدى([45])
كما أن الاصل في آلية المشاكلة أن يتقدم أن يتقدم اللفظ المشاكل ويأتي اللفظ الثاني-المشاكل-يجسّد ذلك الأثر البلاغي لهذا الفن، وقد يحصل العكس فيتقدم اللفظ الماشكِل على المشاكَللما تقتضيه ضرورة السياق والمعنى المفاد من المشاكلة، فالمشاكلة تقع في اللفظ المشاكلِ تقدم أو تأخر، أو قدّر الاول في المعنى كما هي الحال مع المشاكلة التقديرية التي يلمح فيها اللفظ المشاكلّل ضمنا في المعنى ويدرك بالعقل والتأمل والتفكر والاسترجاع بمعنى يقابل المعنى المذكور بلفظه الدال عليه وقرائن الحال، ولعل الغموض الذي يصحب النوع الثاني من المشاكلة – أعني التقديرية -يجعل منها أكثر بلاغة، لما تحمل من شحذ الفكر وتحفيز الذكاء والموهبة مع ما توفره من عنصري التشويق للمتلقي والمباغتة حتى تحصل له الأريحية في النهاية، و كما أن منشئ الجناس يحظى بالفوز واالعجاب عندما يصدر منه من طبع وعفوية، فكذلك المشاكلة عندما تصدر عفو الخاطر دون تكلف يذهب برونقها وجالها السياقي فيلحظ ذلك المتلقي ويتلقاه بالقبول، وكذا الحال بالنسبة لدارسي البلاغة والاسلوبية على مر العصور([46]).
نلحظ مما سبق بأن عبدالقاهر الجرجاني قرر مبدأه النقدي على الجمع بين(شدة الائتلاف) و(شدة الاختلاف)، إذ يقول معلقا على البيت:
وكأنَّ البَرْقَ مُصَحَفُ قَار فَانطِباقاً مَرّةً وانفِتَاحَـا([47])
فـ”لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له من انبساطٍ يعقبه انقِباضٌ، وانتشارٍ يتلوه انضمامٌ، ثم فَلَى نفسَه عن هيئات الحركات لينظر أيُّها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة الخاصّة في المصحف، إذا جعل يفتحه مرة ويُطبقه أُخرى، ولم يكن إعجابُ هذا التشبيه لك وإيناسه إياك لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشدَّ الاختلاف فقط، بل لأنّ حَصلَ بإزاء الاختلاف اتفاقٌ كأحسن ما يكون وأتمَّه، فبمجموع الأمرين شدّة ائتلافِ في شدّة اختلاف حلا وحسُن، ورَاقَ وفَتَن”([48])، وبذلك يمكن القول بأن الجرجاني اعتمد تقنية(الجمع بين الشيء وضده) و(الجمع بين شدة الائتلاف وشدة الاختلاف)، وذلك لتحليله النصوص الأدبية.
وإذا فتشنا التراث النقدي نجد أن ابن طباطبا قد شارك الجرجاني في رأيه السابق وذلك من اجل (استواء النسج)، والاستواء عامل مضاد لمبدأ (الاختلاف) عند الجرجاني([49]).
نعود الى بيتي امرئ القيس، إذ يقول([50]):
كأني لم أركب جوادا ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ان منطق المعنى هو الذي ربط بين أطراف المشاكلة في النص السابق، وبذلك كان (الجواد والكر) في بيت و(النساء والخمر) في بيت آخر، لذلك رد ابن رشيق على الرجل البغدادي من باب المعنى إذ برر التركيب الأصلي للبيتين وقرر أن”قول امرىء القيس أصوب، ومعناه أعز وأغرب”، مركزا على فكرة(الصواب) مقرونة بالمعنى، أي أنه ينافح عن صواب معنى امرىء القيس، ولذا فسر اللذة بالصيد، وقرنها بغشيان النساء، ثم تلا ذلك الفتوة والشجاعة متمثلين بأنه يسبأ الزق ويكر على الخيل، ولما جاء للاية الكريمة أخضع دلالة النص فيها الى (مستعمل العادة) إذ نقرأ قوله: “أما احتجاج الآخر بقول الله عز وجل فليس من هذا في شيء، لأنه أجرى الخطاب على مستعمل العادة، وفيه مع ذلك تناسب، لأن العادة أن يقال: جائع عريان، ولم يستعمل في هذا الموضع عطشان ظمآن”، وبذلك فإنه يلغي من الاية الكريمة كل قيمة جمالية-دون ان يعلم-لان اللجوء الى مستعمل المادة يجعل التركيب الدلالي هنا عاديا وتقليديا، بينما الامر على عكس ذلك، لاننا لسنا امام معزول ولكننا أمام مشكلة بيانية(جمالية) تستدعي منا موقفا نظريا لحالها، ولا شكل أن مفهوم الرجل البغدادي كا أعمق من مفهوم ابن رشيق، وذلك على المستوى النظري، لأن ابن رشيقلم يفعل سوى الاحتكام الى (المعنى) لا كأساس نظظري كما فعل البغدادي، ولكن كردة فعل تشرح وتبرر أن تقننوعندما يشرح فهو يعتمد على قول(العلماء) كأساس، لشرح اللذة، كما انه يستند على (مستعمل العادة) في شرحه للاية الكريمة، وهو بهذا يبرر النص تبريرا معنويا معتمدا على براهين من خارج النص ويغفل عن البعد الجمالي ولا يسعى لاستكناه امكانات النص الجمالية، ولو فطن الى مزالق صنيعه هذا لعلم أنه قد جنى على النص بينما كان يقصد حمايته، ولقد رأينا كيف جعل مجرد محاكاة للمستعمل، كما أن شرحه لأبيات امرىء القيس انما قام على محاولة لكشف(الجمع بين الشيء وشكله)، لذلك جعل البيت الاول يقوم على الجمع بين لذتين(الصيد والكاعب) والبيت الثاني يجمع بيت (الفتوة والشجاعة)([51]).
في حين أن الجرجاني يلجأ الى مقومات النص الماثلة أمامه ويسعى الى توصيفها، فهو لايجلب الى النص براهين أجنبية عليه ليبرر بها النص كما فعل ابن رشيق، ولا يتعسف على حرمة النص فيعيد النص فيعيد صياغته بناء على فهمه النظري الخاص كما فعل المنتخب، ولكنه اذا ما بهره النص سعى الى استكناه بواعث الجمال والشاعرية فيه، كما رأينا قوله -أعلاه- الذي كان وصفا للأثر الذي أحدثه بيت ابن المعتز([52]):
وكأن البرق مصحف قار فانطباقا مرة وانفتاحا
فالمشبه “البرق” وهو مفرد مقيد تقديرا، والمشبه به “المصحف”
فقوله “قار” بحذف الهمزة أي: قارئ, والفاء في قوله: “فانطباقا” لتعليل التشبيه المستفاد من “كأن”، أو لبيان وجه الشبه بين البرق والمصحف، وهو مفرد مقيد بإضافته إلى القارئ, ووجه الشبه هيئة مجموع الحركات المختلفة باختلاف الجهات، غير أن هذه الهيئة تحقيقية في المصحف، تخييلية في البرق, إذ لا انفتاح فيه، ولا انطباق حقيقة وإنما هو ظهور يعقبه خفاء والعكس, إلا أنه يشبه في هذه الحالة المصحف، يفتحه القارئ تارة، ويطبقه أخرى. فهو -كما ترى- لم يعتبر في الهيئة المنتزعة شيئا من أوصاف الجسم، وإنما راعى فقط تلك الحركات المختلفة النواحي عند انفتاح المصحف وانطباقه، وعند ظهور البرق واختفائه. ولا شك أن المصحف يتحرك في كل من حالتي الانفتاح والانطباق إلى جهات مختلفة، فبعضه يتحرك إلى اليمين وبعضه إلى اليسار، ومجموعه إلى العلو حالة الانطباق، وإلى السفل حالة الانفتاح, وكذلك حال البرق في ظهوره وخفائه في مرأى العين.
فالشاعر عندما يشبه حركة أو هيئة بغيرها فعليه أن يتطلب أمراً يشترك فيه الطرفان، كما فعل ابن المعتز في البيت السابق، فهو لم ينظر إلى جميع صفات البرق، بل نظر إلي انبساط يعقبه انقباض وانتشار يتلوه انضمام، فشبه ذلك بمصحف يفتحه القارئ مرة، ويطبقه مرة أخرى ([53]).
ويعلق الجرجاني على البيت السابق: ” ألاَ ترى أن الهيئة التي اعتمدها في تشبيه البَرْق بالمصحف، ليست تكون إلا في النادر من الأحوال، وبعد عَمْد من الإنسان، وخروج عن العادة، وبقصدٍ خاصّ أو عَبَثٍ غالب على النفس غير معتاد… لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له من انبساطٍ يعقبه انقِباضٌ، وانتشارٍ يتلوه انضمامٌ، ثم فَلَى نفسَه عن هيئات الحركات لينظر أيُّها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة الخاصّة في المصحف، إذا جعل يفتحه مرة ويُطبقه أُخرى، ولم يكن إعجابُ هذا التشبيه لك وإيناسه إياك لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشدَّ الاختلاف فقط، بل لأنّ حَصلَ بإزاء الاختلاف اتفاقٌ كأحسن ما يكون وأتمَّه، فبمجموع الأمرين شدّة ائتلافِ في شدّة اختلاف حلا وحسُن، ورَاقَ وفَتَن”([54])
والذي يهمنا هنا هو محاولة الجرجاني لتأسيس نظرية نقدية متطورة، معتمدا على الوصف “ويجعل الابداع أولا ثم التقييم النقدي، مبنيا على سبر أثر النص في القارىء، ومن هنا جاءنا هذا المبدأ الجديد، مبدأ(الجمع بين شدة الائتلاف وشدة الاختلاف) بين أركان التشبيه”([55]).
([1])لسان العرب لان منظور (شكل).
([2])ينظر : – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 200 . – ابن الناظم ، المصباح ، 89 . – القزويني ، الإيضاح ، 308 . – الطيبي ، التبيان ، 289 . – ابن البناء ، الروض المريع ، 110 . – السيوطي ، شرح عقود الجمان ، 110 .
([4])البرهان في علوم القران، للزركشي، تح : محمد أبي الفضل إبراهيم : 3/239.
([5])ينظر : البرهان في علوم القران : 3/236.
([6])ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني : 360، وجواهر البلاغة احمد الهاشمي : 226
([7]) ينظر: غريب القرآن، ابن قتيبة: 64، ومعجم مقاييس اللغة، ابن فارس: 3/333، والمفردات، راغب الاصفهاني: 475.
([8])ينظر : كتاب سيبويه : 4/477- 478.
([9])ينظر : الخصائص : 2/143-145.
([11])ينظر : البرهان في علوم القران : 3/233 وما بعدها.
([12])هو أحمد بن محمد الأنطاكي ويكنى أبا حامد توفي سنة 399هـ وكنى أبا الرقعمق براء مفتوحة وقاف مفتزحة وعين ساكنة وميم مفتوحة آخره قاف ولم أقف على معناه وهو ليس بعربي ولعله لفظ هزلي وقبل هذا البيت قوله:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة … فأتى رسولهم إلي خصيصا
ينظر:( شرح الكافية البديعية 182، والإيضاح 6/28، معاهد التنصيص 2/252، وينظر: طراز الحلة 417، وخزانة الأدب؛ لابن حجة 2/253.)
([13])من الكامل، ورد دون عزْو في عددٍ من المصادر، مثل: شرح الكافية البديعية 182، والإيضاح 6/28، معاهد التنصيص 2/252، وينظر: طراز الحلة 417، وخزانة الأدب؛ لابن حجة 2/253.
ونسبه العباسي في معاهد التنصيص؛ لأبي الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكي (399هـ)، وأرجِّح أنَّه لجحظة البرمكي: أحمد بن جعفر بن برمك (324هـ)، فقد نسبه الثَّعالبي إليه، ينظر: التوفيق للتلفيق 188، وخاص الخاص 109، وينظر جحظة البرمكي: الأديب الشاعر 353، فالثَّعالبي أقْرب إلى عصْر الشَّاعر من العباسي.
([14])ديوان عمرو بن كلثوم، جمعه وحققه أميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط78 :1991 ،1.والبيت في شرح المعلقات السبع للزوزني: 176.
([15])البيتان وردتا في: المحاسن والمساوئ للبيهقي :276.
([16]) ينظر: علي جارمي ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ط1، جاكرتا: روضة فريسا2007: ص299.
([17]) ينظر: الخطيب القزويني : الإيضاح في شرح المفتاح ، ص 263، وكتور عبد الفتاح لاشين :البديع في ضوء أسليب القرآن ،ص 78.
([18]) ينظر: البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها: 1/755.
([19]) ينظر: مفتاح العلوم:٤٢٩، الإيضاح في علوم البلاغة:٢٢٨، الطراز المتضمن لعلوم البلاغة:٣٧٢.
([21])من الكامل، ورد دون عزْو في عددٍ من المصادر، مثل: شرح الكافية البديعية 182، والإيضاح 6/28، معاهد التنصيص 2/252، وينظر: طراز الحلة 417، وخزانة الأدب؛ لابن حجة 2/253.
ونسبه العباسي في معاهد التنصيص؛ لأبي الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكي (399هـ)، وأرجِّح أنَّه لجحظة البرمكي: أحمد بن جعفر بن برمك (324هـ)، فقد نسبه الثَّعالبي إليه، ينظر: التوفيق للتلفيق 188، وخاص الخاص 109، وينظر جحظة البرمكي: الأديب الشاعر 353، فالثَّعالبي أقْرب إلى عصْر الشَّاعر من العباسي.
([22]) البيت ورد في: معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، العباسي :1/219.
([23])من الكامل، ورد دون عزْو في عددٍ من المصادر، مثل: شرح الكافية البديعية 182، والإيضاح 6/28، معاهد التنصيص 2/252، وينظر: طراز الحلة 417، وخزانة الأدب؛ لابن حجة 2/253.
ونسبه العباسي في معاهد التنصيص؛ لأبي الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكي (399هـ)، وأرجِّح أنَّه لجحظة البرمكي: أحمد بن جعفر بن برمك (324هـ)، فقد نسبه الثَّعالبي إليه، ينظر: التوفيق للتلفيق 188، وخاص الخاص 109، وينظر جحظة البرمكي: الأديب الشاعر 353، فالثَّعالبي أقْرب إلى عصْر الشَّاعر من العباسي.
([24])الجامع لأحكام القرآني، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: 2/135.
([25])ديوان امرئ القيس ، تحقيق: عبدالرحمن المصطاوي، دار المعرفة – بيروت ، الطبعة : الثانية ، 1425 هـ – 2004 م : 122
([26])العمدة في محاسن الشعر وآدابه: 85
([27]) المصدر نفسه والصحيفة نفسها.
([29]) ينظر: القراءة النقدية للنص الأدبي، علي احمد عبده (www.althawranews.net)
([30]) شرح ديوان الحماسة، المرزوقي:9.
([32]) المشاكلة والاختلاف: 70.
([34]) ينظر: شعرية الانزياح دارسة في جماليات العدول:186.
([35]) اللغة الثانية، فاضل ثامر:29.
([36]) وهنا تجدر الإشارة بأن دريدا قد تفاعل مع نظرية دى سوسير Saussure’s في علم اللسانيات والتي تتأسس على مفهوم الدال والمدلول و على الأسس البنائية الأخرى، وهو ما رآه دريدا مناسبا في إعداد دراسات في اللغة والفعل ولكنه غير حاسم في دراسة سيناريوهات النقد العلمي إذ يرى دريدا عدم علمية النقد اللساني البنيوي، ولقد وجد في نظرية سوسير طبعة أخرى للفهم التقليدي للكتابة والنطق , وفى إطار عرضه للعلاقة الداخلية بين الميتافيزيقا واللسانيات , لاحظ دريدا أن تصور الدال عند سوسير يطبق دائما داخل ذاته للتميز بين الدال والمدلول بطريقة بسيطة , كتمييز بين وجهين لنفس الشيء , ويعاد تأسيس هذه العلاقة داخل إطار التراث الذي يحتفي بمركزية اللوجوس و مركزية اللوجوس ليس فقط مركزية الصوت , حيث الأفضلية العليا للصوت وكيانه بل أن مركزية اللوجوس تتخطى ذلك لتعطى للمعنى وجود وهوية ثابتة . فضلا عن أن النظام اللغوي اللساني يتوهم العلمية في ظل حماس عارم للبنائية , ولهذه النماذج من النقد وهو نفسه الحماس لمركزية اللوجوس ومركزية الصوت الذي يكونا في النهاية محض إنتاج ميتافيزيقيا، يحاول دريدا أن يكون الأدب والفعل النقدي واللغة , غير خاضع لتأثير هذا الكل الميتافيزيقى من خلال شكل جديد من المصطلحات النقدية ضمن نظريته التفكيكية بحيث تستطيع هدم المفاهيم القديمة للغة والموضة القديمة للنقد.
فعقولنا وفهمنا يكون بوعي أو غير وعى متآزر و جاهز مع تلك الطريقة القديمة أو ذلك الظرف في الفهم و البحث عن المعنى , وفي الحقيقة نحن نملك ترجمة واحدة من أفكار قديمة , لهذا يعتقد دريدا أن المصطلحات اللسانية لسوسير لم تكن ثورة في فهمنا للغة فهي ليس اكثر من إنتاج آخر من الميتافيزيقا لكن تكمن خطورته في ادعائه للعلمية والحيادية ، ويعرض دريدا أذن الأصول الميتافيزيقية للغة والنقد – بغية هدمها – لأننا نحاول أن نكون حياديين في البحث اللغوي , لا نحمل اللغة ما لا تحتمله من معاني , فنحن نعترف بالواقعية والطبيعية للغة , لذا يجب فصلها عن بذورها الميتافيزيقية في حين نجد دى سوسير قد وقع ضحية الميتافيزيقا كما بين لنا دريدا.(ينظر: جاك دريدا ونظرية التفكيكية ترجمة : احمد حمدى حسن (www.ahmedhamdyhassan.blogspot.com
([37])ينظـر: أنوار الربيع في أنواع البديع، السيد علي صدرالدين بن معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي شاكر:5/237، والكـشكول ـ تـأليف: الـشيخ بهـاء الـدين محمـد بـن حـسين العـاملي: دار الكتـب العلميـة – بيـروت / لبنـان – ١٤١٨ -هـ ١ ١٩٩٨ -م /٢٦١ الطبعة: الأولى تحقيق: محمد عبد الكريم النمري ٢٦١/ – ١
([38]) المشاكلة والاختلاف: 79.
([42]) الأدب الجاهلي، طه حسين، دار المعارف، مصر، 1968: 412.
([43]) ينظر: المشاكلة والاختلاف: 83.
([44])التبيان في شرح الديوان، أبو البقاء العكبري (ت616هـ/1219م)، تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الابياري، عبد الحفيظ شلبي،(دار المعرفة، بيروت، 1978: ج 3 , ص 367
([46]) ينظر: التوظيف البلاغي للتجنيس والمشاكلة في شعر المتنبي، رائد حمد خلف، رسالة ماجستير، جامعة ديالى، كلية التربية للعلوم الانسانية، قسم اللغة العربية، 2014م: 66.(بتصرف بسيط).
([47]) ديوان ابن معتز، دار صادر ، بيروت، ط1، 2010:141.
([49]) ينظر: المشاكلة والاختلاف، د. عبدالله الغذامي:16.
([51]) ينظر: المشاكلة والاختلاف: 17(بتصرف بسيط).
Tag:الآراء التفكيكية